ذكر الغريض وأخباره
  ابن سريج طبعه وظرفه وحلاوة منطقه خشي أن يأخذ غناءه فيغلبه عليه عند الناس ويفوقه بحسن وجهه وجسده؛ فاعتلّ عليه، وشكاه إلى مولياته، وهنّ كنّ دفعنه إليه ليعلَّمه الغناء، وجعل يتجنّى عليه ثم طرده؛ فشكا ذلك إلى مولياته وعرّفهنّ غرض ابن سريج في تنحيته إيّاه عن نفسه، وأنه حسده على تقدّمه؛
  تعلم النوح وكان ينوح للنساء في المآتم
  فقلن له: هل لك في أن تسمع نوحنا على قتلانا فتأخذه وتغنّي عليه؟ قال: نعم فافعلن، فأسمعنه المراثي فاحتذاها وخرّج غناء عليها كالمراثي، وكان ينوح مع ذلك فيدخل المآتم وتضرب دونه الحجب ثم ينوح فيفتن كلّ من سمعه. ولما كثر غناؤه اشتهاه الناس وعدلوا إليه لما كان فيه من الشّجا(١). فكان ابن سريج لا يغنّي صوتا إلا عارضه(٢) الغريض فيه لحنا آخر. فلما رأى ابن سريج / موقع الغريض اشتدّ عليه وحسده، فغنّى الأرمال والأهزاج فاشتهاها الناس؛ فقال له الغريض: يا أبا يحيى، قصّرت الغناء وحذفته؛ قال: نعم يا مخنّث حين جعلت تنوح على أمّك وأبيك.
  قال إسحاق وحدّثني أبو عبيدة قال: لما غضب ابن سريج على الغريض فأقصاه وهجره لحق بحوراء وبغوم - جاريتين نائحتين كانتا في شعب ابن عامر بمكة، ولم يكن قبلهما ولا بعدهما مثلهما - فرأتاه يوما يعصر عينيه ويبكي؛ فقالتا له: ما لك تبكي؟ فذكر لهما ما صنع به ابن سريج؛ فقالتا له: لا أرقأ اللَّه دمعك! ألزز رأسك(٣) بين ما أخذته عنه وبين ما تأخذه منّا، فإن ضعت بعدها فأبعدك اللَّه.
  عدّه جرير ضمن الأربعة المشهورين في الغناء
  قال إسحاق وحدّثني أبو عبد اللَّه الزّبيريّ قال: رأيت جريرا في مجلس من مجالس قريش فسمعته يقول: كان المغنّون بمكة أربعة، فسيد مبرّز وتابع مسدّد؛ فسألناه / عن ذاك، فقال: كان السيّد / أبو يحيى بن سريج والتابع أبو يزيد الغريض(٤). وكان هناك رجل عالم بالصناعة فقال: كان الغريض أحذق أهل زمانه بمكة بالغناء بعد ابن سريج،
  كان الناس لا يفرقون بينه وبين ابن سريج
  وما زال أصحابنا لا يفرقون بينهما لمقاربتهما في الغناء. قال الزّبيريّ وقال بعض أهلي: لو حكَّمت بين أبي يحيى وأبي يزيد لما فرّقت بينهما، وإنما تفضيلي أبا يحيى بالسّبق، فأمّا غير ذلك فلا، لأنّ أبا يزيد عنه أخذ ومن بحره اغترف وفي ميدانه جرى، فكان كأنّه هو؛ ولذلك قالت سكينة لما غنّى الغريض وابن سريج:
  عوجي علينا ربّة الهودج
  / واللَّه ما أفرّق بينكما، وما مثلكما عندي إلا كمثل اللؤلؤ والياقوت في أعناق الجواري الحسان لا يدرى أيّ ذلك أحسن.
= ويعطيها شهواتها.
(١) الشجا: الحزن.
(٢) أي ناقضة وباراه فيه بلحن آخر يغنيه. ولم نجد عارض يتعدّى لمفعولين إلا فيما ورد من الحديث من «أن جبريل # كان يعارضه القرآن في كل سنة مرة وأنه عارضه العام مرتين» أي كان يدارسه جميع ما نزل من القرآن، من المعارضة وهي المقابلة.
(٣) أي اجعل رأسك بينهما: تريدان بذلك أن يجمع بين ما أخذه عن ابن سريج وما سيأخذه عنهما.
(٤) يلاحظ أنه لم يذكر هنا إلا اثنين