كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

أخبار علي بن أمية

صفحة 103 - الجزء 23

  عبيد اللَّه إذا لم يكن له نوبة، فأقبلت أتعجّب من ذلك، واتّصلت خدمته إياه ثلاث سنين، ثم انصرفا يوما من الشّمّاسية مع عبيد اللَّه بن جعفر، فلقيه الخضر بن جبريل، وكان في⁣(⁣١) الناس في العسكر، فعاتبه عبيد اللَّه على تركه وانقطاعه عنه، فقال: واللَّه ما أفعل ذلك جهلا بحقك، ولا إخلالا بواجبك، ولكنا في طريقين متباينين لا يمكن معهما الاجتماع، قال: وما هما ويحك؟ قال: أنت على نهاية السّرف في محبّة⁣(⁣٢) عمرو الغزال، وأنا على نهاية السّرف في بغضه⁣(⁣٢) وأنت تتوهم أنه لا يطيب لك عيش إلا به، وأنا أتوهم أني إن عاشرته ساعة متّ، وتقطعت نفسي غيظا وكمدا، وما يستقيم مع هذا بيننا عشرة أبدا، فقال له عبيد اللَّه: إذا كان هذا⁣(⁣٣) هكذا فأنا أعفيك منه إذا زرتني، فصر إليّ آمنا، ففعل، ولم يجلس عبيد اللَّه حتى قال لحاجبه لا تدخل اليوم / أحدا، ولا تستأذن عليّ لجلوسه ودخلنا، فلما وضعت المائدة لم يأكل ثلاث لقم، حتى دخل الحاجب فوقف بين يديه، وأقبل عمرو الغزال خلفه، فرآه من أقصى الصحن، فقال له عبيد اللَّه: ثكلتك أمّك! ألم أقل لك لا تدخل عليّ أحدا من خلق اللَّه؟ فقال له الحاجب: امرأته طالق ثلاثا إن كان عنده أن عمرا عندك في هذا المجرى، ولو جاء جبريل وميكائيل وكلّ من خلق اللَّه لم يدخلوا عليك إلا بإذن سوى عمرو؛ فإنك أمرتني أن آذن له خاصة وأن يدخل متى شاء، وعلى كلّ حال.

  قال: ولم يفرغ الحاجب من كلامه حتى دخل عمرو، فجلس على المائدة وتغيّر وجه الخضر، وبانت الكراهة فيه، فما أكل أكلا فيه خير، وتبيّن عبيد اللَّه ذلك، ورفعت المائدة وقدّم النبيذ، فجعل الخضر يشرب شربا كثيرا لم أكن أعهده يشرب مثله، / فظننت⁣(⁣٤) أنه يريد بذلك أن يستتر⁣(⁣٥) من عمرو الغزال، وعمرو يتغنّى، فلا يقتصر⁣(⁣٦) وكلما تغنى قال له عبيد اللَّه: لمن هذا الصوت يا حبيبي؟ فيقول: لي وعندنا يومئذ جوار مطربات محسنات، وهو يقطع غناءهنّ بغنائه، وتبينت في وجه الخضر العربدة إلى أن قال عمرو بعقب صوت: هذا لي، فوثب الخضر وكشف استه وخزي في وسط المجلس على بساط خزّ لم أر لأحد مثله، ثم قال: إن كان هذا الغناء لك، فهذا الخراء لي، فغضب عبيد اللَّه، وقال له: يا خضر أكنت تستطيع أن تفعل أكثر من هذا؟ قال إي واللَّه أيها الأمير، ثم وضع رجليه على سلحه، ثم أخرجهما فمشى على البساط مقبلا ومدبرا، حتى خرج وقد لوّثه، وهو يقول: هذا كله لي، وتفرّقنا عن المجلس على أقبح حال وأسوئها، وشاع الخبر، حتى بلغ الرشيد، فضحك حتى غلب عليه، ودعا الخضر، وجعله في ندمائه منذ يومئذ، وقال: هذا أطيب خلق اللَّه، وانكشف عنده عوار عمرو الغزال واسترحنا منه، وأمر أن يحجب عنه، فسقط يومئذ، وقد كان الجواري والغلمان أخذوه ولهجوا به، وكان الرشيد يكايد به إبراهيم الموصلي وابن جامع قبل ذلك فسقط غناؤه أيضا منذ يومئذ، فما ذكر منه حرف بعد ذلك اليوم إلا صنعته في:

  يا ريح ما تصنعين بالدّمن

  ولولا إعجاب الرشيد به لسقط أيضا.


(١) في هج: «فتى الناس».

(٢ - ٢) التكملة من: هج.

(٣) في س، ب: «إذا كان هكذا».

(٤) س، ب: «فظننته».

(٥) في: هج: «يستريح».

(٦) في هج: «فلا يفتر».