ذكر الغريض وأخباره
  فقلت: وكيف وأنت لم تسمعه قط! قال: لمّا غنّيت عرفتك به وقلت: إن كان معبد في الدنيا فهذا؛ فقلت: جعلت فداءك، فكيف أجبتني بقولك:
  وما أنس م الأشياء لا أنس قولها ... وقد قرّبت نضوي أمصر تريد
  فقال: قد علمت أنك تريد أن أسمعك صوتي:
  وما أنس م الأشياء لا أنس شادنا ... بمكَّة مكحولا أسيلا مدامعه
  ولم يكن إلى ذلك سبيل لأنّه صوت قد نهيت أن أغنّيه فغنّيتك هذا الصوت جوابا لما / سألت وغنّيت، فقلت: واللَّه ما عدوت وما أردت، فهل لك حاجة؟
  / فقال لي: يا أبا عبّاد، لولا ملالة الحديث وثقل إطالة الجلوس لاستكثرت منك، فاعذر؛ فخرجت من عنده، وإنّه لأجلّ الناس عندي، ورجعت إلى المدينة فتحدّثت بحديثه وعجبت من فطنته وقيافته، فما رأيت إنسانا إلَّا وهو أجلّ منه في عيني(١).
  خبر جميل وبثينة وتوسيطه رجلا من بني حنظلة في لقائها
  وذكرت جميلا وبثينة فقلت: ليتني عرفت إنسانا يحدّثني بقصّة جميل وخبر الشعر فأكون قد أخذت بفضيلة الأمر كلَّه في الغناء والشعر. فسألت عن ذلك فإذا الحديث مشهور، وقيل لي: إن أردت أن تخبّر بمشاهدته فأت بني حنظلة، فإن فيهم شيخا منهم يقال له فلان يخبّرك الخبر؛ فأتيت الشيخ فسألته فقال: نعم، بينا أنا في إبلي في الربيع إذا أنا برجل منطو على رحله كأنّه جانّ فسلَّم عليّ ثم قال: ممن أنت يا عبد اللَّه؟ فقلت: أحد بني حنظلة؛ قال: فانتسب(٢)، فانتسبت حتى بلغت إلى فخذي الذي أنا منه؛ ثم سألني عن بني عذرة أين نزلوا؛ فقلت له: هل ترى ذلك السّفح؟ فإنهم نزلوا من ورائه؛ قال: يا أخا بني حنظلة، هل لك في خير(٣) تصطنعه إليّ؟ فو اللَّه لو أعطيتني ما أصبحت تسوق من هذه الإبل ما كنت بأشكر منّي لك عليه؛ فقلت نعم، ومن أنت أوّلا؟
  قال: لا تسألني من أنا ولا أخبرك غير أني رجل بيني وبين هؤلاء القوم ما يكون بين بني العم، فإن رأيت أن تأتيهم فإنّك تجد القوم في مجلسهم فتنشدهم(٤) بكرة أدماء تجرّ خفّيها غفلا(٥) من السّمة، فإن ذكروا لك شيئا فذاك، وإلا استأذنتهم في البيوت وقلت: إن المرأة والصبيّ قد يريان ما لا يرى الرجال، فتنشدهم ولا تدع أحدا تصيبه عينك ولا بيتا / من بيوتهم إلَّا نشدتها فيه؛ فأتيت القوم فإذا هم على جزور يقتسمونها، فسلَّمت وانتسبت لهم ونشدتهم ضالَّتي، فلم يذكروا لي شيئا؛ فاستأذنتهم في البيوت وقلت: إنّ الصبيّ والمرأة يريان ما لا ترى الرجال، فأذنوا؛ فأتيت أقصاها بيتا ثم استقريتها بيتا بيتا أنشدهم فلا يذكرون شيئا، حتى إذا انتصف النهار وآذاني حرّ الشمس وعطشت وفرغت من البيوت وذهبت لأنصرف حانت منّي التفاتة فإذا بثلاثة أبيات، فقلت: ما عند هؤلاء إلا ما عند
(١) في ط: «في نفسي».
(٢) في ط: «فنسبني فانتسبت» ونسبني: سألني أن أنتسب.
(٣) في ح، أ، م: «معروف».
(٤) تنشدهم بكرة: تناديهم وتسألهم عنها والبكرة: الفتية من الإبل، والأدماء: وصف من الأدمة، والأدمة في الناس: السمرة وفي الإبل والظباء: البياض. قال الأصمعي: الآدم من الإبل: الأبيض فإن خالطته حمرة فهو أصهب فإن خالطت الحمرة صفاء فهو المدمي.
(٥) في ب: «عفلاء» وهو تحريف.