كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

ذكر الغريض وأخباره

صفحة 593 - الجزء 2

  غيرهم، ثم قلت لنفسي: سوءة! وثق بي رجل وزعم أن حاجته تعدل مالي ثم آتيه فأقول: عجزت عن ثلاثة أبيات! فانصرفت عامدا إلى أعظمها بيتا، فإذا هو قد أرخي مؤخّرة ومقدّمه، فسلَّمت فردّ عليّ السلام، وذكرت ضالَّتي، فقالت جارية منهم: يا عبد اللَّه، قد أصبت ضالَّتك وما أظنّك إلَّا قد أشتدّ عليك الحرّ واشتهيت الشراب؛ قلت: أجل، قالت: ادخل، فدخلت فأتتني بصحفة فيها تمر من تمر هجر، وقدح فيه لبن، والصّحفة مصريّة مفضّضة والقدح مفضّض لم أر إناء قطَّ أحسن منه، فقالت: دونك، فتجمّعت⁣(⁣١) وشربت من اللبن حتى رويت، ثم قلت: يا أمة اللَّه، واللَّه ما أتيت اليوم أكرم منك ولا أحقّ بالفضل، فهل ذكرت من ضالَّتي شيئا؟ فقالت: هل ترى هذه الشجرة فوق الشّرف⁣(⁣٢)؟ قلت: نعم؛ قالت: فإن الشمس غربت أمس وهي تطيف حولها ثم حال الليل بيني وبينها؛ فقمت وجزيتها الخير وقلت: والله لقد تغذيت ورويت! فخرجت حتى أتيت الشجرة فأطفت بها فو اللَّه ما رأيت من أثر، فأتيت صاحبي فإذا هو متّشح في الإبل / بكسائه ورافع عقيرته⁣(⁣٣) يغنّي، قلت: السلام عليك؛ قال:

  / وعليك السلام ما وراءك؟ قلت؛ ما ورائي من شيء؛ قال: لا عليك! فأخبرني بما فعلت، فاقتصصت عليه القصّة حتى انتهيت إلى ذكر المرأة وأخبرته بالذي صنعت؛ فقال: قد أصبت طلبتك؛ فعجبت من قوله وأنا لم أجد شيئا، ثم سألني عن صفة الإناءين: الصّحفة والقدح فوصفتهما له، فتنفّس الصّعداء وقال: قد أصبت طلبتك ويحك! ثم ذكرت له الشجرة وأنّها [رأتها]⁣(⁣٤) تطيف بها؛ فقال: حسبك! فمكثت حتى إذا أوت إبلي إلى مباركها دعوته إلى العشاء فلم يدن منه، وجلس منّي بمزجر الكلب، فلما ظنّ أنّي قد نمت رمقته فقام إلى عيبة⁣(⁣٥) له فاستخرج منها بردين فأتزر⁣(⁣٦) بأحدهما وتردّى بالآخر، ثم انطلق عامدا نحو الشجرة. واستبطنت الوادي فجعلت أخفي نفسي حتّى إذا خفت أن يراني انبطحت، فلم أزل كذلك حتّى سبقته إلى شجرات قريب من تلك الشجرة بحيث أسمع كلامهما فاستترت بهنّ، وإذا صاحبته عند الشجرة، فأقبل حتّى كان منها غير بعيد، فقالت: اجلس، فو اللَّه لكأنّه لصق بالأرض، فسلَّم عليها عن حالها أكرم سؤال سمعت به قطَّ وأبعده من كل ريبة، وسألته مثل مسئلته، ثم أمرت جارية معها فقربت إليه طعاما، فلمّا أكل وفرغ، قالت أنشدني ما قلت، فأنشدها:

  علقت الهوى منها وليدا فلم يزل ... إلى اليوم ينمي حبّها ويزيد

  فلم يزالا يتحدّثان، ما يقولان فحشا ولا هجرا، حتّى التفتت التفاتة⁣(⁣٧) فنظرت إلى الصبح، فودّع كلّ واحد منهما صاحبه أحسن وداع ما سمعت به قطَّ⁣(⁣٨) ثم انصرفا، / فقمت فمضيت إلى إبلي فاضطجعت وكل واحد منهما يمشي خطوة ثمّ يلتفت إلى صاحبه، فجاء بعد ما أصبحنا فرفع برديه ثم قال: يا أخا بني تميم، حتّى متى تنام!


(١) كذا في أ، م، ء. وفي باقي النسخ: «فهجعت» ويظهر أنه تحريف.

(٢) الشرف: المكان العالي.

(٣) عقيرة الرجل: صوته إذا غنى أو قرأ أو بكى. وقيل أصله أن رجلا عقرت رجله فوضع العقيرة على الصحيحة وبكى عليها بأعلى صوته فقيل: رفع عقيرته، ثم كثر ذلك حتى صير الصوت بالغناء عقيرة. (انظر «اللسان» مادة عقر).

(٤) زيادة في ط.

(٥) العيبة: وعاء من أدم يكون فيه المتاع.

(٦) ضبط هذا الفعل في ط هكذا «فاتزر» بشدة على التاء، وهو صحيح عند من يرى إدغام الهمزة في التاء. وحمل عليه ما جاء في بعض الروايات: «كان النبي ÷ يباشر بعض نسائه وهي متزرة». وبعض اللغويين يمنع هذا الإدغام ويخطئ المحدّثين في هذه الرواية.

(٧) كذا في ط. وفي باقي الأصول: «التفت».

(٨) كذا في ب، س، أ، م. وفي باقي الأصول: «أحسن وداع سمعت به قط»، من غير ما النافية، وهو مستقيم وإن كان مجيء «قط» في الإثبات قليلا حتى منعه بعضهم. وقد اتفقت النسخ على الحذف في: «أكرم سؤال سمعت به قط» قبل هذه الجملة بأسطر.