ذكر الغريض وأخباره
  إنّما / كنت أستلذّ مكَّة وأعيش بها مع أبيك ونحوه، وقد أوطنت(١) هذا المكان ولست تاركه ما عشت؛ قلنا له: فغنّنا بشيء من غنائك فتأبّى، ثم أقسمنا عليه فأجاب، وعمدنا إلى شاة فذبحناها وخرطنا من مصرانها أوتارا، فشدّها على عوده واندفع فغنّى في شعر زهير:
  جرى دمعي فهيّج لي شجونا ... فقلبي يستجنّ(٢) به جنونا(٣)
  فما سمعنا شيئا أحسن منه؛ فقلنا(٤) له: ارجع إلى مكَّة، فكلّ من بها يشتاقك. ولم نزل نرغَّبه في ذلك حتى أجاب إليه. ومضينا لحاجتنا ثم عدنا فوجدناه عليلا، فقلنا: ما قصّتك؟ قال: جاءني منذ ليال قوم، وقد كنت أغنّي في الليل، فقالوا: غنّنا؛ فأنكرتهم وخفتهم، فجعلت أغنّيهم، فقال لي بعضهم غنّني:
  لقد حثّوا الجمال ليه ... ربوا منّا فلم يئلوا(٥)
  ففعلت، فقام إليّ [هن](٦) منهم أزبّ(٧) فقال لي: أحسنت واللَّه! ودقّ رأسي، حتى سقطت لا أدري أين أنا، فأفقت بعد ثالثة وأنا عليل كما ترى، ولا أراني إلا سأموت. قال: فأقمنا عنده بقيّة يومنا ومات من غد فدفنّاه وانصرفنا.
  أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة عن أبي غسّان قال:
  زعم المكَّيّون أنّ الغريض خرج إلى بلاد عكّ(٨) فغنّى ليلا:
  هم ركب لقوا ركبا ... كما قد تجمع السّبل
  / فصاح به صائح: أكفف يا أبا مروان، فقد سفّهت حلماءنا، وأصبيت(٩) سفهاءنا، قال: فأصبح ميّتا.
  رواية أخرى في وفاته
  أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني محمد بن الخطَّاب قال حدّثنا رجل من آل أبي قبيل - يقال له محرز - عن أبي قبيل قال: رأيت الغريض، وقال إسحاق في خبره المذكور: حدّثني محمد بن سلَّام عن أبي قبيل - وهو مولى لآل الغريض - قال:
  شهدت مجمعا لآل الغريض إما(١٠) عرسا أو ختانا، فقيل له: تغنّ؛ فقال: هو ابن زانية إن فعل؛ فقال له بعض مواليه: فأنت واللَّه كذلك! قال: أو كذلك أنا؟ قال: نعم، قال: أنت أعلم بي واللَّه! ثم أخذ الدّفّ فرمى به وتمشّى مشية لم أر أحسن منها، ثم تغنّى:
(١) أي اتخذته وطنا.
(٢) كذا في أغلب الأصول وهامش ط. واستجن به (بالبناء للمفعول): صار به مجنونا. وفي ط: «يستحنّ به» بالحاء المهملة.
(٣) كذا في ب، س، ح. وهامش أ. وفيء ح، أ، م: «حنينا».
(٤) كذا في ح وفي باقي الأصول: «فقلت».
(٥) لم يئلوا: لم يجدوا موئلا وملجأ يعتصمون به.
(٦) زيادة في ط، والهن: اسم يكنى به عن الشخص وجمعه «هنون» وفي حديث الجن: «فإذا هو بهنين كأنهم الزط».
(٧) الأزب: الكثير الشعر.
(٨) عك: قبيلة، والبلاد التي تضاف إليها: مخلاف باليمن.
(٩) كذا في ط وأصبيت: دعوت إلى الصبا. وفي باقي النسخ: «أصبت».
(١٠) كذا في جميع الأصول، ولا بدّ من تكرار إما، وقد يستغنى عن إما الثانية بذكر ما يغني عنها نحو: إما أن تتكلم بخير وإلا فاسكت، ونحو قراءة أبيّ في قوله تعالى: {وإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.