ذكر نسب أبي العتاهية وأخباره
  مملوك له حرّ وامرأته طالق إن تكلَّم سنة إلَّا بالقرآن أو بلا إله إلَّا اللَّه محمد رسول اللَّه. فكأنّ الرشيد تحزّن مما فعله، فأمر أن يحبس في دار ويوسّع عليه، ولا يمنع من دخول من يريد إليه. قال مخارق: وكانت الحال بينه وبين إبراهيم الموصليّ لطيفة، فكان يبعثني إليه في الأيام أتعرّف خبره. فإذا دخلت وجدت بين يديه ظهرا(١) ودواة، فيكتب إليّ ما يريد، وأكلَّمه. فمكث هكذا سنة. واتّفق أنّ إبراهيم الموصليّ صنع صوته:
  صوت
  أعرفت دار الحيّ بالحجر ... فشدوريان فقنّة الغمر(٢)
  وهجرتنا وألفت رسم بلى ... والرسم كان أحقّ بالهجر
  - لحن إبراهيم في هذا الشعر خفيف رمل بالوسطى. وفيه لإسحاق رمل بالوسطى - قال مخارق: فقال لي إبراهيم: اذهب إلى أبي العتاهية حتى تغنّيه هذا الصوت. فأتيته في اليوم الذي انقضت فيه يمينه، فغنّيته إيّاه. فكتب إليّ بعد أن غنّيته: هذا اليوم تنقضي فيه يميني، فأحبّ أن تقيم عندي إلى الليل؛ فأقمت عنده نهاري كلَّه، حتى إذا أذّن الناس المغرب كلَّمني، فقال: يا مخارق. قلت: لبّيك. قال: قل لصاحبك: يا بن الزانية! أما واللَّه لقد أبقيت للناس فتنة إلى يوم القيامة، فانظر أين أنت من اللَّه غدا! قال مخارق: فكنت أوّل من أفطر على كلامه؛ فقلت: دعني من هذا، هل قلت شيئا للتخلَّص من هذا الموضع؟ فقال: نعم، قد قلت في امرأتي شعرا. قلت: هاته؛ فأنشدني:
  صوت
  من لقلب متيّم مشتاق ... شفّه شوقه وطول الفراق
  طال شوقي إلى قعيدة بيتي ... ليت شعري فهل لنا من تلاقي
  هي حظَّي قد اقتصرت عليها ... من ذوات العقود والأطواق
  جمع اللَّه عاجلا بك شملي ... عن قريب وفكَّني من وثاقي
  قال: فكتبتها وصرت بها إلى إبراهيم؛ فصنع فيها لحنا، ودخل بها على الرشيد؛ فكان أوّل صوت غنّاه إيّاه في ذلك المجلس؛ وسأله: لمن الشعر والغناء؟ فقال إبراهيم: أمّا الغناء فلي، وأما الشعر فلأسيرك أبي العتاهية.
  فقال: أو قد فعل؟ قال: نعم قد كان ذلك. فدعا به، ثم قال لمسرور الخادم: كم ضربنا أبا العتاهية؟ قال: ستين عصا، فأمر له بستين ألف درهم وخلع عليه وأطلقه.
  غضب عليه الرشيد وترضّاه له الفضل:
  نسخت من كتاب هارون بن عليّ بن يحيى: حدّثني عليّ بن مهديّ قال حدّثنا الحسين بن أبي السّريّ قال:
  قال لي الفضل بن العباس: وجد الرشيد وهو بالرّقّة على / أبي العتاهية وهو بمدينة السّلام، فكان أبو العتاهية
(١) لعله يريد بالظهر هنا الريش الذي يظهر من ريش الطائر وجمعه ظهار كعرق وعراق. ويظهر أنه كان من عادتهم الكتابة به كالأقلام.
(٢) القنة: ذروة الحبل وأعلاه. والغمر: جبل بحذاء توّز. وتوز: من منازل طريق مكة من البصرة معدود في أعمال اليمامة. أما «شدوريان» فلم نهتد إليه.