ذكر نسب أبي العتاهية وأخباره
  ملَّاح يعبّر النّاس، فلجأنا إليه فسألناه عن الطريق، فجعل يضعّف رأينا ويعجّزنا في بذلنا أنفسنا في ذلك الغيم للصيد حتى أبعدنا، / ثم أدخلنا كوخا له. وكاد المهديّ يموت بردا؛ فقال له: أغطَّيك بجبّتي هذه الصوف؟ فقال نعم؛ فغطَّاه بها، فتماسك قليلا ونام. فافتقده غلمانه وتبعوا أثره حتى جاؤنا. فلمّا رأى الملَّاح كثرتهم علم أنه الخليفة فهرب، وتبادر الغلمان فنحّوا الجبّة عنه وألقوا عليه الخزّ والوشي. فلما انتبه قال لي: ويحك! ما فعل الملَّاح؟ فقد واللَّه وجب حقّه علينا. فقلت: هرب واللَّه خوفا من قبح ما خاطبنا به. قال: إنّا للَّه! واللَّه لقد أردت أن أغنيه، وبأيّ شيء / خاطبنا! نحن واللَّه مستحقّون لأقبح مما خاطبنا به! بحياتي عليك إلَّا ما هجوتني. فقلت: يا أمير المؤمنين، كيف تطيب نفسي بأن أهجوك! قال: واللَّه لتفعلنّ؛ فإني ضعيف الرأي مغرم بالصّيد. فقلت:
  يا لابس الوشي على ثوبه ... ما أقبح الأشيب في الراح
  فقال: زدني بحياتي؛ فقلت:
  لو شئت أيضا جلت في خامة(١) ... وفي وشاحين وأوضاح(٢)
  فقال: ويلك! هذا معنى سوء يرويه عنك الناس، وأنا استأهل. زدني شيئا آخر. فقلت: أخاف أن تغضب.
  قال: لا واللَّه. فقلت:
  كم من عظيم القدر في نفسه ... قد نام في جبّة ملَّاح
  فقال: معنى سوء عليك لعنة اللَّه! وقمنا وركبنا وانصرفنا.
  وقعت في عسكر المأمون رقعة فيها شعره فوصله:
  أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثنا محمد بن يزيد قال حدّثنا جماعة من كتّاب الحسن بن سهل قالوا:
  وقعت رقعة فيها بيتا شعر في عسكر المأمون؛ فجيء بها إلى مجاشع بن مسعدة، فقال: هذا كلام أبي العتاهية، وهو صديقي، وليست المخاطبة لي ولكنّها للأمير الفضل بن سهل. فذهبوا بها، فقرأها وقال: ما أعرف هذه العلامة. فبلغ المأمون خبرها فقال: هذه إليّ وأنا أعرف العلامة. والبيتان:
  صوت
  ما على ذا كنّا افترقنا بسندا(٣) ... ن وما هكذا عهدنا الإخاء
  تضرب الناس بالمهنّدة البي ... ض على غدرهم وتنسى الوفاء
  قال: فبعث إليه المأمون بمال.
  في هذين البيتين لأبي عيسى بن المتوكَّل رمل من رواية ابن المعتزّ.
(١) الخام: ثوب من القطن لم يغسل.
(٢) الأوضاح: حليّ من فضة أو هي الخلاخيل.
(٣) سندان: مدينة ملاصقة للسند.