كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

ذكر طريح وأخباره ونسبه

صفحة 469 - الجزء 4

  إنّ التي صنتها عن معشر طلبوا ... منّي إليّ الذي لم ينجح الطَّلب

  أخلصتها لك إخلاص امرئ عللم الأقوام أنّ ليس إلَّا فيك يرتغب

  أصبحت تدفعها منّي⁣(⁣١) وأعطفها ... عليك وهي لمن يحبى بها رغب

  فإن وصلت فأهل العرف أنت وإن ... تدفع يديّ فلي بقيا ومنقلب /

  إنّي كريم كرام عشت في أدب ... نفى العيوب وملك⁣(⁣٢) الشّيمة الأدب

  قد يعلمون بأنّ العسر منقطع ... يوما وأنّ الغنى لا بدّ منقلب

  فمالهم حبس⁣(⁣٣) في الحقّ مرتهن ... مثل الغنائم تحوى ثم تنتهب

  وما على جارهم ألَّا يكون له ... إذا تكنّفه أبياتهم نشب

  لا يفرحون إذا ما الدّهر طاوعهم ... يوما بيسر ولا يشكون إن نكبوا

  فارقت قومي فلم أعتض بهم عوضا ... والدّهر يحدث أحداثا لها نوب

  رواية المدائني في ذلك:

  وأمّا المدائنيّ فقال: كان الوليد بن يزيد يكرم طريحا، وكانت له منه منزلة قريبة ومكانة، وكان يدني مجلسه، وجعله أوّل داخل وآخر خارج، ولم يكن يصدر إلَّا عن رأيه. فاستفرغ مديحه كلَّه وعامّة شعره فيه؛ فحسده ناس من أهل بيت الوليد. وقدم حمّاد الراوية على التّفئة⁣(⁣٤) الشأم، فشكوا ذلك إليه وقالوا: واللَّه لقد ذهب طريح بالأمير⁣(⁣٥)، فما نالنا منه ليل ولا نهار. فقال حمّاد: ابغوني من ينشد الأمير بيتين من شعر، فأسقط منزلته. فطلبوا إلى الخصيّ الذي كان يقوم على رأس الوليد، وجعلوا له عشرة آلاف درهم على أن ينشدهما الأمير في خلوة، فإذا سأله من قول من ذا؟ قال: من قول طريح؛ فأجابهم الخصيّ إلى ذلك، وعلَّموه البيتين. فلمّا كان ذات يوم دخل طريح على الوليد وفتح الباب وأذن للناس فجلسوا طويلا ثم نهضوا، وبقي طريح مع الوليد وهو وليّ عهد؛ ثم دعا / بغدائه فتغدّيا جميعا. ثم إنّ طريحا خرج وركب إلى منزله، وترك الوليد في مجلسه ليس معه أحد، فاستلقى على فراشه.

  واغتنم الخصيّ خلوته فاندفع ينشد:

  /

  سيري ركابي إلى من تسعدين به ... فقد أقمت بدار الهون ما صلحا

  سيري إلى سيّد سمح خلائقه ... ضخم الدّسيعة⁣(⁣٦) قرم يحمل المدحا

  فأصغى الوليد إلى الخصيّ بسمعه وأعاد الخصيّ غير مرّة؛ ثم قال الوليد: ويحك يا غلام! من قول من هذا؟

  قال: من قول طريح. فغضب الوليد حتى امتلأ غيظا؛ ثم قال: والهفا على أمّ لم تلدني! قد جعلته أوّل داخل وآخر


(١) في ح، م: «عني».

(٢) ملك الشيمة: قوامها ومعظمها.

(٣) حبس (بضمتين): محبوس.

(٤) التفئة: الحين والزمان.

(٥) كذا فيء، م، ط، وهو الصواب؛ إذ كان الوليد في ذلك الوقت وليّ عهد.

(٦) الدسيعة: العطية الجزيلة، والجفنة الواسعة، والمائدة الكريمة.