كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

ذكر طريح وأخباره ونسبه

صفحة 470 - الجزء 4

  خارج، ثم يزعم أنّ هشاما يحمل المدح ولا أحملها! ثم قال: عليّ بالحاجب، فأتاه. فقال: لا أعلم ما أذنت لطريح ولا رأيته على وجه الأرض؛ فإن حاولك فاخطفه بالسيف. فلمّا كان العشيّ وصلَّيت العصر، جاء طريح للساعة التي كان يؤذن له فيها، فدنا من الباب ليدخل. فقال له الحاجب: وراءك! فقال: ما لك! هل دخل عليّ وليّ العهد أحد بعدي؟ قال: لا! ولكن ساعة ولَّيت من عنده دعاني فأمرني ألَّا آذن لك، وإن حاولتني في ذلك خطفتك بالسيف. فقال: لك عشرة آلاف [درهم]⁣(⁣١) وأذن لي في الدخول عليه. فقال له الحاجب: واللَّه لو أعطيتني خراج العراق ما أذنت لك في ذلك، وليس لك من خير في الدخول عليه فارجع. قال: ويحك! هل تعلم من دهاني عنده؟

  قال الحاجب: لا واللَّه! لقد دخلت عليه وما عنده أحد، ولكنّ اللَّه يحدث ما يشاء في اللَّيل والنهار. قال: فرجع طريح وأقام بباب الوليد سنة لا يخلص إليه ولا يقدر على الدخول عليه. وأراد الرجوع إلى بلده وقومه فقال: واللَّه إنّ هذا لعجز بي أن أرجع من غير أن ألقى وليّ العهد فأعلم من دهاني عنده. ورأى أناسا كانوا له أعداء قد فرحوا بما كان من أمره، فكانوا يدخلون على الوليد / ويحدّثونه ويصدر عن رأيهم. فلم يزل يلطف بالحاجب⁣(⁣٢) ويمنّيه؛ حتّى قال له الحاجب: أمّا إذ أطلت المقام فإنّي أكره أن تنصرف على حالك هذه، ولكنّ الأمير إذا كان يوم كذا وكذا دخل الحمّام، ثم أمر بسريره فأبرز، وليس عليه يومئذ حجاب؛ فإذا كان ذلك اليوم أعلمتك فتكون قد دخلت عليه وظفرت بحاجتك وأكون أنا على حال عذر. فلمّا كان ذلك اليوم، دخل الحمّام وأمر بسريره فأبرز وجلس عليه، وأذن للناس فدخلوا عليه، والوليد ينظر إلى من أقبل. وبعث الحاجب إلى طريح، فأقبل وقد تتامّ الناس. فلما نظر الوليد إليه من بعيد صرف عنه وجهه، واستحيا أن يردّه من بين الناس؛ فدنا فسلَّم فلم يردّ #. فقال طريح يستعطفه ويتضرّع إليه:

  نام الخليّ من الهموم وبات لي ... ليل أكابده وهمّ مضلع

  وسهرت لا أسري ولا في لذّة ... أرقي وأغفل ما لقيت الهجّع

  أبغي وجوه مخارجي من تهمة ... أزمت عليّ وسدّ منها المطلع

  جزعا لمعتبة الوليد ولم أكن ... من قبل ذاك من الحوادث أجزع

  يا بن الخلائف إنّ سخطك لامرئ ... أمسيت عصمته بلاء مفظع

  فلأنزعنّ عن الذي لم تهوه ... إن كان لي ورأيت ذلك منزع /

  فاعطف فداك أبي عليّ توسّعا ... وفضيلة فعلى الفضيلة تتبع

  فلقد كفاك وزاد ما قد نالني ... إن كنت لي ببلاء ضرّ تقنع

  سمة لذاك عليّ جسم شاحب ... باد تحسّره ولون أسفع⁣(⁣٣) /

  إن كنت في ذنب عتبت فإنّني ... عمّا كرهت لنازع متصرّع


(١) زيادة فيء.

(٢) في ط، ء: «يلطف للحاجب». وفي أساس البلاغة: «وأنا ألطف بفلان إذا أريته مودّة ورفقا في المعاملة». وفي «اللسان»: «يقال:

لطف به وله بالفتح يلطف لطفا إذا رفق به ...

(٣) أسفع: شاحب متغير من مقاساة المشاق.