4 - ذكر عبيد الله بن قيس الرقيات ونسبه وأخباره
  فأقمت عندهم حتى أسحرت(١)، ثم نهضت ومعي العبد حتى قدمت المدينة، فجئت عبد اللَّه بن جعفر بن أبي طالب عند المساء وهو يعشّي أصحابه، فجلست معهم وجعلت أتعاجم وأقول: يار يار(٢) / ابن طيّار(٣)؛ فلما خرج أصحابه كشفت له عن وجهي، فقال: ابن قيس؟ فقلت: ابن قيس، جئتك عائذا بك؛ قال: ويحك! ما أجدّهم في طلبك وأحرصهم على الظَّفر بك! ولكني سأكتب إلى أمّ البنين بنت عبد العزيز بن مروان فهي زوجة الوليد بن عبد الملك، وعبد الملك أرقّ شيء عليها. فكتب إليها يسألها أن تشفع له إلى عمّها، وكتب إلى أبيها يسأله أن يكتب إليها كتابا يسألها الشفاعة؛ فدخل عليها عبد الملك كما كان يفعل وسألها؛ هل من حاجة؟ فقالت: نعم لي حاجة، فقال: قد قضيت كل حاجة لك إلا ابن قيس الرقيّات؛ فقالت: لا تستثن عليّ شيئا! فنفح(٤) بيده فأصاب خدّها، فوضعت يدها على خدّها؛ فقال لها: يا بنتي ارفعي يدك، فقد قضيت كلّ حاجة لك وإن كانت ابن قيس الرقيّات؛ فقالت: إنّ حاجتي ابن قيس الرقيات تؤمّنه، فقد كتب إليّ أبي يسألني أن أسألك ذلك؛ قال: فهو آمن، فمريه يحضر مجلسي العشيّة؛ فحضر / ابن قيس وحضر الناس حين بلغهم مجلس عبد الملك، فأخّر الإذن، ثم أذن للناس، وأخّر إذن ابن قيس الرقيّات حتى أخذوا مجالسهم، ثم أذن له؛ فلما دخل عليه قال عبد الملك: يأهل الشأم، أتعرفون هذا؟ قالوا: لا؛ فقال: هذا عبيد اللَّه بن قيس الرقيّات الذي يقول:
  كيف نومي على(٥) الفراش ولمّا ... تشمل الشأم غارة شعواء
  تذهل الشيخ عن بنيه وتبدي ... عن خدام(٦) العقيلة العذراء
  مدح عبد الملك بما لم يرضه فأمنه وقطع عطاءه فتعهد له به ابن جعفر طول حياته:
  فقالوا: يا أمير المؤمنين اسقنا دم هذا المنافق! قال: الآن وقد أمّنته وصار في منزلي وعلى بساطي! قد أخّرت الإذن له لتقتلوه فلم تفعلوا. فاستأذنه ابن قيس الرقيّات أن ينشده مديحه فأذن له، فأنشده قصيدته التي يقول فيها:
  عاد له من كثيرة الطرب ... فعينه بالدموع تنسكب(٧)
  كوفيّة نازح محلَّتها ... لا أمم دارها ولا صقب
  واللَّه ما إن صبت إليّ ولا ... إن كان بيني وبينها سبب(٨)
(١) أسحر: دخل في السحر.
(٢) يار: كلمة فارسية، ومعناها: الصاحب والشفيق والمعين.
(٣) الطيار: لقب جعفر بن أبي طالب والد عبد اللَّه هذا، وكان قد قطعت يداه في غزوة مؤتة فأثابه اللَّه بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء. (انظر «سيرة ابن هشام» ج ٢ ص ٧٩٥ طبع أوروبا).
(٤) نفح بيده: ضرب بها ضربة خفيفة.
(٥) كذا في ط، ء، م وكذلك صححها المرحوم الأستاذ الشنقيطي في نسخته وهي «الرواية المشهورة». وفي ب، س، ح: «إلى».
(٦) الخدام: جمع خدمة (بالتحريك) وهي الخلخال. وقد أورد صاحب «اللسان» هذين البيتين في مادة خدم ثم قال: «أراد وتبدى عن خدام العقيلة. وخدام ها هنا في نية عن خدامها، وعدّي تبدي بعن لأن فيه معنى تكشف كقوله:
تصدّ وتبدي عن أسيل وتتقي
أي تكشف عن أسيل أو تسفر عن أسيل.
(٧) سيشرح أبو الفرج بعض هذا الشعر فيما يأتي.
(٨) في ديوانه المخطوط:
واللَّه ما إن صبت إليّ ولا ... يعلم بيني وبينها سبب