5 - ذكر مالك بن أبي السمح وأخباره ونسبه
  أن يطارحه، فلم ينشب(١) أن مهر وحذق؛ وكان ذلك بعقب مقتل هدبة بن خشرم؛ فخرج مالك يوما فسمع امرأة تنوح على زيادة الذي قتله هدبة بن خشرم بشعر أخي(٢) زيادة:
  أبعد الذي بالنّعف(٣) نعف كويكب ... رهينة رمس ذي تراب وجندل
  أذكَّر بالبقيا على من أصابني ... وبقياي أنّي جاهد غير مؤتلي
  فلا يدعني قومي لزيد بن مالك ... لئن لم أعجّل ضربة أو أعجّل
  وإلَّا أنل ثأري من اليوم أو غد ... بني عمّنا فالدهر ذو متطوّل
  أنختم علينا كلكل الحرب مرّة ... فنحن منيخوها عليكم بكلكل
  فغنّى في هذا الشعر لحنين، أحدهما نحا فيه نحو المرأة في نوحها ورقّقه وأصلحه وزاد فيه، والآخر نحا فيه نحو معبد في غنائه؛ ثم دخل على حمزة فقال له: أيها الأمير، إني قد صنعت غناء في شعر سمعت بعض أهل المدينة ينشده وقد أعجبني، فإن أذن الأمير غنّيته فيه؛ قال: هاته، فغنّاه اللحن الذي نحا فيه نحو معبد؛ فطرب حمزة وقال له: أحسنت يا غلام، هذا الغناء غناء معبد وطريقته؛ فقال: لا تعجل أيها الأمير واسمع منّي شيئا ليس من غناء معبد ولا طريقته؛ قال: هات، فغنّاه اللحن الذي تشبّه فيه بنوح المرأة، فطرب حمزة حتى ألقى عليه حلَّة كانت عليه / قيمتها مائتا دينار؛ ودخل معبد فرأى حلَّة حمزة عليه فأنكرها؛ وعلم حمزة بذلك فأخبر معبدا بالسبب، وأمر مالكا فغنّاه الصوتين؛ فغضب معبد لما سمع الصوت الأوّل وقال: قد كرهت أن آخذ هذا الغلام فيتعلَّم غنائي فيدّعيه لنفسه؛ فقال له حمزة: لا تعجل واسمع غناء صنعه ليس من شأنك ولا غنائك، وأمره أن يغنّي الصوت الآخر فغنّاه؛ فأطرق معبد؛ فقال له حمزة: واللَّه لو انفرد بهذا لضاهاك ثم يتزايد على الأيام، وكلما كبر وزاد شخت أنت ونقصت، فلأن يكون منسوبا إليك أجمل؛ فقال له معبد وهو / منكسر: صدق الأمير. فأمر حمزة لمعبد بخلعة من ثيابه وجائزة حتى سكن وطابت نفسه؛ فقام مالك على رجله فقبّل رأس معبد، وقال له: يا أبا عبّاد أساءك ما سمعت منّي؟ واللَّه لا أغنّي لنفسي شيئا أبدا ما دمت حيّا، وإن غلبتني نفسي فغنّيت في شعر استحسنته لا نسبته إلا إليك، فطب نفسا وارض عنّي؛ فقال له معبد: أو تفعل هذا وتفي به؟ قال: إي واللَّه وأزيد؛ فكان مالك بعد ذلك إذا غنّى صوتا وسئل عنه قال: هذا لمعبد، ما غنّيت لنفسي شيئا قطَّ، وإنما آخذ غناء معبد فأنقله إلى الأشعار وأحسّنه وأزيد فيه وأنقص منه.
  كان يغني ليلة الجمعة:
  أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال حدّثنا الحسن بن عتبة اللهبيّ عن عبد الرحمن بن محمد بن عبيد اللَّه أحد بني الحارث بن عبد المطلب قال:
  خرجت من مكة أريد العراق، فحملت معي مالك بن أبي السّمح من المدينة، وذلك في أيام أبي العبّاس
(١) يقال: لم ينشب أن فعل كذا أي لم يلبث. وحقيقته: لم يتعلق بشيء غيره ولا اشتغل بسواه.
(٢) هو عبد الرحمن بن زيد أخو زيادة بن زيد المقتول، كما في «الشعر والشعراء» في «ترجمة هدبة بن خشرم» (ص ٤٣٦ طبع أوروبا) و «الأغاني» (ج ٢١ ص ٢٧١ طبع أوروبا) في «ترجمة هدبة المذكور».
(٣) النعف: ما انحدر عن غلظ الجبل وارتفع عن مجرى السيل كالخيف.