كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

8 - نسب إبراهيم الموصلي وأخباره

صفحة 112 - الجزء 5

  ضياعه، وسوى الصّلات النّزرة التي لم يحفظها؛ ولا واللَّه ما رأيت أكمل مروءة منه، كان له طعام / معدّ في كل وقت؛ فقلت لأبي: أكان يمكنه ذلك؟ فقال: كان له في كل يوم ثلاث شياه: واحدة مقطَّعة في القدور، وأخرى مسلوخة ومعلَّقة، وأخرى حيّة، فإذا أتاه قوم طعموا ما في القدور، فإذا فرغت قطَّعت الشاة المعلَّقة ونصبت القدور وذبحت الحيّة فعلَّقت وأتي بأخرى فجعلت وهي حيّة في المطبخ؛ وكانت وظيفته لطعامه وطيبه وما يتّخذ له في كل شهر ثلاثين ألف درهم سوى ما كان يجري وسوى كسوته؛ ولقد اتفق عندنا مرّة من الجواري الودائع لإخوانه ثمانون جارية، ما منهنّ واحدة إلا ويجري عليها من الطعام والكسوة والطَّيب مثل ما يجري لأخصّ جواريه، فإذا ردّت الواحدة منهنّ إلى مولاها وصلها وكساها، ومات وما في ملكه إلا ثلاثة آلاف دينار، وعليه من الدّين سبعمائة دينار قضيت منها.

  اشترى منه الرشيد جارية وسأله الحطيطة من ثمنها فكان منه ما دل على سمو نفسه:

  أخبرني محمد بن خلف وكيع ويحيى بن عليّ بن يحيى وابن / المرزبان قالوا أخبرنا حمّاد بن إسحاق قال:

  كان أبي يحدّث أن الرشيد اشترى من جدّي جارية بستة وثلاثين ألف دينار، فأقامت عنده ليلة، ثم أرسل إلى الفضل بن الربيع: إنا اشترينا هذه الجارية من إبراهيم، ونحن نحسب أنها من بابتنا⁣(⁣١) وليست كما ظننتها، وما قربتها، وقد ثقل عليّ الثمن وبينك وبينه ما بينكما، فاذهب إليه فسله أن يحطَّنا من ثمنها ستة آلاف دينار؛ قال:

  فصار الفضل إليه فاستأذن [عليه]⁣(⁣٢) فخرج جدّي فتلقّاه؛ فقال: دعني من هذه الكرامة التي لا مؤنة بيننا فيها، لست ممّن يخدع، وقد جئتك في أمر أصدقك عنه، ثم أخبره الخبر كلَّه؛ فقال له إبراهيم: إنه أراد أن يبلو قدرك عندي؛ قال: ذاك / أراد! قال: فمالي كلَّه صدقة في المساكين إن لم أضعّفه لك، قد حططتك⁣(⁣٣) اثني عشر ألف دينار؛ فرجع الفضل إليه بالخبر؛ فقال: ويلك! ادفع إلى هذا ماله، فما رأيت سوقة قطَّ أنبل نفسا منه. قال أبي: وكنت قد أتيت جدّك فقلت: ما كان لحطيطة هذا المال معنى وما هو بقليل، فتغافل عنّي وقال: أنت أحمق، أنا أعرف الناس به، واللَّه لو أخذت المال منه كملا⁣(⁣٤) ما أخذته إلا وهو كاره، ويحقد ذلك عليّ وكنت أكون عنده صغير القدر، وقد مننت عليه وعلى الفضل، وانبسطت نفسه ونشط وعظم قدري عنده، وإنما اشتريت الجارية بأربعين ألف درهم، وقد أخذت بها أربعة وعشرين ألف دينار، فلما حمل المال إليه بلا حطيطة دعاني فقال لي: كيف رأيت يا إسحاق! من البصير أنا أم أنت؟ فقلت: بل أنت جعلني اللَّه فداءك.

  حوار الفضل بن يحيى له وقد رآه خارجا من عند الفضل بن الربيع:

  حدّثني وكيع قال حدّثنا حمّاد قال حدّثني أبي قال:


(١) البابة: الوجه والطريق، ويقال: هذا شيء من بابتك، أي يصلح لك (راجع الحاشية رقم ٩ ص ١٧٩ من الجزء الأوّل من هذا الكتاب طبع دار الكتب المصرية).

(٢) زيادة عن م.

(٣) كذا في ط، ء. وفي م: «حططته». وفي سائر الأصول: «حططت».

(٤) كملا (بفتحتين) أي كاملا وافيا. قال الليث: هكذا يتكلم به في الجمع والوحدان سواء لا يثني ولا يجمع وليس بمصدر ولا نعت وإنما هو كقولك: أعطيته المال كله. (انظر «المصباح المنير» و «اللسان» مادة كمل).