فصل في صناعة الغناء عن العلامة ابن خلدون في «مقدمته»
  المتحرّكة والساكنة، ويفصّلون الكلام في تلك الأجزاء تفصيلا يكون كل جزء منها مستقلا بالإفادة لا ينعطف على الآخر، ويسمونه البيت، فيلائم الطبع بالتجزئة أوّلا، ثم بتناسب الأجزاء في المقاطع والمبادئ، ثم بتأدية المعنى المقصود وتطبيق الكلام عليها، فلهجوا به، فامتاز من بين كلامهم بحظ من الشرف ليس لغيره، لأجل اختصاصه بهذا التناسب؛ وجعلوه ديوانا لأخبارهم وحكمهم وشرفهم، ومحكَّا لقرائحهم في إصابة المعاني وإجادة الأساليب، واستمرّوا على ذلك.
  وهذا التناسب الذي من أجل الأجزاء والمتحرّك والساكن من الحروف، قطرة من بحر من تناسب الأصوات، كما هو معروف في كتب الموسيقى؛ إلا أنهم لم يشعروا بما سواه؛ لأنهم حينئذ لم ينتحلوا علما. ولا عرفوا صناعة، وكانت البداوة أغلب نحلهم. ثم تغنّى الحداة منهم في حداء إبلهم، والفتيان في فضاء خلواتهم، فرجّعوا الأصوات وترنّموا. وكانوا يسمون الترنم إذا كان بالشعر غناء، وإذا كان بالتهليل أو نوع القراءة تغبيرا (بالغين المعجمة والباء الموحدة). وعللها أبو إسحاق الزجاج بأنها تذكَّر بالغابر، وهو الباقي، أي بأحوال الآخرة(١).
  وربما ناسبوا في غنائهم بين النغمات مناسبة بسيطة، كما ذكره ابن رشيق آخر «كتاب العمدة» وغيره. وكانوا يسمونه «السناد»، وكان أكثر ما يكون منهم في الخفيف الذي يرقص عليه ويمشي بالدف والمزمار، فيطرب ويستخف الحلوم، وكانوا يسمون هذا «الهزج». وهذا البسيط كله من التلاحين هو من أوائلها، ولا يبعد أن تتفطن له الطباع من غير تعليم، شأن البسائط كلها من الصنائع. ولم يزل هذا شأن العرب في بداوتهم وجاهليتهم.
  فلما جاء الإسلام واستولوا على ممالك الدنيا وحازوا سلطان العجم وغلبوهم عليه، وكانوا من البداوة والغضاضة على الحال التي عرفت لهم، مع غضارة الدين وشدّته في ترك أحوال الفراغ وما ليس بنافع في دين ولا معاش، هجروا ذلك شيئا ما، ولم يكن الملذوذ عندهم إلا بترجيع القراءة والترنم بالشعر الذي كان ديدنهم ومذهبهم. فلما جاءهم الترف وغلب عليهم الرفه بما حصل لهم من غنائم الأمم، صاروا إلى نضارة العيش ورقّة الحاشية واستحلاء الفراغ، فافترق المغنّون من الفرس والروم فوقعوا إلى الحجاز، وصاروا موالي للعرب، وغنّوا جميعا بالعيدان والطنابير والمعازف(٢) والمزامير، وسمع العرب تلحينهم للأصوات فلحّنوا عليها أشعارهم، وظهر بالمدينة نشيط الفارسيّ وطويس وسائب خاثر مولى عبد اللَّه بن جعفر، فسمعوا شعر العرب ولحنوه وأجادوا فيه، وطار لهم ذكر، ثم أخذ عنهم معبد وطبقته وابن سريج وأنظاره.
  وما زالت صناعة الغناء تتدرّج إلى أن كملت أيام بني العباس عند إبراهيم بن المهدي وإبراهيم الموصليّ وابنه إسحاق وابنه حمّاد، وكان من ذلك في دولتهم ببغداد ما تبعه الحديث به وبمجالسه لهذا العهد. وأمعنوا في اللهو واللعب، واتخذت الات الرقص في الملبس والقضبان والأشعار التي يترنم بها عليه، وجعل صنفا وحده. واتخذت آلات أخرى للرقص تسمى بالكرّج(٣) - وهي تماثيل خيل مسرجة من الخشب معلَّقة بأطراف أقبية يلبسها النسوان،
(١) هذا رأي الزجاج. وقال الأزهري: سموا ما يطرّبون فيه من الشعر في ذكر اللَّه تغييرا، كأنهم إذا تناشدوها بالألحان طربوا فرقصوا وأرهجوا (أثاروا الرهج وهو الغبار)، فسموا مغبّرة لهذا المعنى. قال الأزهري: وروينا عن الشافعي قال: أرى الزنادقة وضعوا التغيير ليصدّوا عن ذكر اللَّه وقراءة القرآن.
(٢) المعازف: الملاهي والملاعب التي يضرب بها، يقولون للواحد: عزف، والجمع معازق (على غير مقياس) فإذا أفرد المعزف فهو ضرب من الطنابير ويتخذه أهل اليمن. وغيرهم يجعل العود معزفا. «لسان العرب» (مادة «عزف»).
(٣) الكرّج: فارسيّ معرب وهو ما يتخذ مثل المهر يلعب عليه؛ قال جرير:
لبست سلاحي والفرزدق لعبة ... عليها وشاحا كرج وجلاجله