11 - أخبار سياط ونسبه
  سمع أبو ريحانة جارية تغني فشق قربتها واشترى لها عوضها:
  أخبرني إسماعيل قال حدّثني عمر بن شبّة قال:
  مرّت جارية بأبي ريحانة يوما على ظهرها قربة وهي تغنّي وتقول:
  وأبكى فلا ليلى بكت من صبابة ... إليّ ولا ليلى لذي الودّ تبذل
  وأخنع بالعتبى إذا كنت مذنبا ... وإن أذنبت كنت الذي أتنصّل
  فقام إليها فقال: يا سيّدتي أعيدي؛ فقالت: مولاتي تنتظرني والقربة على ظهري؛ فقال: أنا أحملها عنك؛ فدفعتها إليه فحملها، وغنته الصوت، فطرب فرمى بالقربة فشقّها. فقالت له الجارية: أمن حقّي أن أغنّيك وتشقّ قربتي! فقال لها: لا عليك، تعالي معي إلى السّوق؛ فجاءت معه فباع ملحفته واشترى لها بثمنها قربة جديدة. فقال له رجل: يا أبا ريحانة، أنت واللَّه كما قال اللَّه ø: {فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وما كانُوا مُهْتَدِينَ}؛ فقال: بل أنا كما قال اللَّه ø: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَه ُ}.
  مر بأبي ريحانة المدني وهو في الشمس من البرد فغنى له فشق ثوبه وبقي في البرد:
  أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبيّ قال حدّثني أبو العيناء قال قال إسحاق الموصليّ:
  بلغني أنّ أبا ريحانة المدنيّ كان جالسا في يوم شديد البرد وعليه قميص خلق رقيق؛ فمرّ به سياط المغنّي فوثب إليه وأخذ بلجامه وقال له: يا سيّدي، بحق القبر ومن فيه غنّني صوت ابن جندب، فغنّاه(١):
  فؤادي رهين في هواك ومهجتي ... تذوب وأجفاني عليك همول
  / فشقّ قميصه حتى خرج منه وبقي عاريا وغشي عليه، واجتمع الناس حوله وسياط واقف / متعجّب مما فعل. ثم أفاق وقام إليه؛ فرحمه سياط وقال له: مالك يا مشئوم؟ أيّ شيء تريد؟ قال: غنّني باللَّه عليك:
  سودّع أمامة حان منك رحيل ... إنّ الوداع لمن تحبّ قليل
  مثل القضيب تمايلت أعطافه ... فالريح تجذب متنه فيميل
  إن كان شأنكم الدلال فإنه ... حسن دلالك يا أميم جميل
  فغنّاه إياه؛ فلطم وجهه ثم خرج الدم من أنفه ووقع صريعا. ومضى سياط، وحمل الناس أبا ريحانة إلى الشمس. فلما أفاق قيل له: ويحك! خرقت قميصك وليس لك غيره! فقال: دعوني، فإن الغناء الحسن من المغنّي المطرب أدفأ للمقرور من حمّام المهديّ إذا أوقد سبعة أيام. قال: ووجّه له سياط بقميص وجبّة وسراويل وعمامة.
  زاره إبراهيم الموصلي وابن جامع في مرضه فأوصى بالمحافظة على غنائه:
  أخبرني يحيى بن عليّ بن يحيى قال حدّثني أبو أيّوب المدنيّ قال حدّثني محمد بن عبد اللَّه الخزاعيّ وحمّاد بن إسحاق جميعا عن إسحاق قال:
  كان سياط أستاذ أبي وأستاذ ابن جامع ومن كان في ذلك العصر. فاعتلّ علة، فجاءه أبي وابن جامع يعودانه.
  فقال له أبي: أعزز عليّ بعلتك أبا وهب! ولو كانت مما يفتدى لفديتك منها. قال: كيف كنت لكم؟ قلنا: نعم
(١) كذا في ح. وفي سائر الأصول: «فغناه وقال ... إلخ». والظاهر أن كلمة «وقال» مقحمة من الناسخ.