كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

15 - أخبار يحيى المكي ونسبه

صفحة 410 - الجزء 6

  فظللت تأمل قرب أوبتهم ... والنفس مما تأمل الأملا

  فسئل عنه فنسبه إلى الغريض. فقال له إسحاق: يا أبا عثمان، ليس هذا من نمط الغريض ولا طريقته في الغناء، ولو شئت لأخذت مالك وتركت للغريض ماله ولم تتعب. فاستحيا يحيى ولم ينتفع بنفسه بقيّة يومه. فلما انصرف بعث إلى إسحاق بألطاف كثيرة وبرّ واسع، وكتب إليه يعاتبه ويستكفّ شرّه ويقول له: لست من أقرانك فتضادّني، ولا أنا ممن يتصدّى لمباغضتك ومباراتك فتكايدني، ولأنت إلى أن أفيدك وأعطيك ما تعلم أنك لا تجده عند غيري فتسمو به على أكفائك أحوج منك إلى أن تباغضني، فأعطي غيرك سلاحا إذا حمله عليك لم تقم له، وأنت / أولى وما تختار. فعرف إسحاق صدق يحيى، فكتب إليه يعتذر، وردّ / الألطاف التي حملها إليه، وحلف لا يعارضه بعدها، وشرط عليه الوفاء بما وعده به من الفوائد؛ فوفّى له بها، وأخذ منه كلّ ما أراد من غناء المتقدمين. وكان إذا حز به أمر في شيء منها فزع إليه فأفاده وعاونه ونصحه؛ وما عاود إسحاق معارضته بعد ذلك.

  وحذره يحيى، فكان إذا سئل بحضرته عن شيء صدق فيه، وإذا غاب إسحاق خلَّط فيما يسأل عنه. قال: وكان يحيى إذا صار إليه إسحاق بطلب منه شيئا أعطاه إياه وأفاده وناصحه، ويقول لابنه أحمد: تعال حتى تأخذ مع أبي محمد ما اللَّه يعلم أني كنت أبخل به عليك فضلا عن غيرك؛ فيأخذه أحمد عن أبيه مع إسحاق. قال: وكان إسحاق بعد ذلك يتعصّب ليحيى تعصّبا شديدا؛ ويصفه ويقدّمه ويعترف برياسته، وكذلك كان في وصف أحمد ابنه وتقريظه.

  عدد أصواته التي صنعها:

  قال أحمد بن سعيد: والاختلاف الواقع في كتب الأغاني إلى الآن من بقايا تخليط يحيى. قال أحمد بن سعيد: وكانت صنعة يحيى ثلاثة آلاف صوت، منها زهاء ألف صوت لم يقاربه فيها أحد، والباقي متوسّط. وذكر بعض أصحاب أحمد بن يحيى المكيّ عنه أنه سئل عن صنعة أبيه فقال: الذي صحّ عندي منها ألف وثلاثمائة صوت، منها مائة وسبعون صوتا غلب فيها على الناس جميعا من تقدّم منهم ومن تأخّر، فلم يقم له فيها أحد.

  كان ينسب الأصوات عمدا لغير أصحابها فافتضح أمره:

  وقال حماد بن إسحاق قال لي أبي:

  كان يحيى المكي يسأل عن الصوت، وهو يعلم لمن هو، فينسبه إلى غير صانعه، فيحمل ذلك عنه كذلك، ثم يسأله آخرون فينسبه غير تلك النسبة؛ حتى طال ذلك وكثر منه وقلّ تحفّظه، فظهر عواره، ولولا ذلك لما قاومه أحد.

  أظهر إسحاق كذبه فيما ينسبه من الغناء أمام الرشيد:

  وقال أحمد بن سعيد المالكيّ في خبره:

  قال إسحاق يوما للرشيد، قبل أن تصلح الحال بينه وبين يحيى المكي: أتحب يا أمير المؤمنين أن أظهر لك كذب يحيى فيما ينسبه من الغناء؟ قال نعم. قال: أعطني أيّ شعر شئت حتى أصنع فيه، واسألني بحضرة يحيى عن نسبته فإني سأنسبه إلى رجل لا أصل له، واسأل يحيى عنه إذا غنّيته، فإنه لا يمتنع من أن يدّعي معرفته. فأعطاه شعرا فصنع فيه لحنا وغنّاه الرشيد؛ ثم قال له: يسألني أمير المؤمنين عن نسبته بين يديه. فلما حضر يحيى غنّاه