22 - ذكر ابن جامع وخبره ونسبه
  المغرب وأقمت بمكاني حتى صلَّيت العشاء الآخرة على جوع وتعب. وانصرف أهل المسجد وبقي رجل يصلَّي، خلفه جماعة خدم وخول(١) ينتظرون فراغه؛ فصلَّى مليّا ثم انصرف؛ فرآني فقال: أحسبك غريبا؟ قلت: أجل.
  قال: فمتى كنت في هذه المدينة؟ قلت: دخلتها آنفا، وليس لي بها منزل ولا معرفة، وليست صناعتي من الصنائع التي يمتّ بها إلى أهل الخير. قال: وما صناعتك؟ قلت: أتغنّى. قال: فوثب مبادرا ووكَّل بي بعض من معه.
  فسألت الموكَّل بي عنه فقال: هذا سلَّام(٢) الأبرش. قال: وإذا رسول قد جاء في طلبي فانتهى بي إلى قصر من قصور الخلافة، وجاوز بي(٣) مقصورة إلى مقصورة، ثم أدخلت مقصورة في آخر الدهليز؛ ودعا بطعام فأتيت بمائدة عليها من طعام الملوك، فأكلت حتى امتلأت. فإني لكذلك إذ سمعت ركضا في الدهليز وقائلا يقول: أين الرجل؟
  قيل: هو هذا. قال: ادعوا له بغسول(٤) / وخلعة وطيب، ففعل ذلك بي. فحملت على دابّة إلى دار الخلافة - وعرفتها بالحرس والتكبير والنيران - فجاوزت مقاصير عدّة، حتى صرت إلى دار قوراء(٥) فيها أسرّة في وسطها قد أضيف بعضها إلى بعض. فأمرني الرجل بالصعود فصعدت، وإذا رجل جالس عن يمينه ثلاث جوار في حجورهنّ العيدان، وفي حجر الرجل عود. فرحّب الرجل بي، وإذا مجالس حياله كان فيها قوم قد قاموا عنها. فلم ألبث أن خرج خادم من وراء الستر فقال للرجل: تغنّ، فانبعث يغنّي بصوت لي وهو:
  لم تمش ميلا ولم تركب على قتب ... ولم تر الشمس إلا دونها الكلل(٦)
  تمشي الهوينى كأن(٧) الريح ترجعها ... مشي اليعافير(٨) في جيآتها الوهل
  / فغنّى بغير إصابة وأوتار مختلفة ودساتين(٩) مختلفة. ثم عاد الخادم إلى الجارية التي تلي الرجل فقال لها:
  تغنّي، فغنّت أيضا بصوت لي كانت فيه أحسن حالا من الرجل، وهو قوله:
  /
  يا دار أضحت خلاء لا أنيس بها ... إلا الظباء وإلا النّاشط(١٠) الفرد
(١) في ح: «ومجول». وفي سائر الأصول: «وفحول» والظاهر أن كليهما محرّف عما أثبتناه.
(٢) خدم المنصور وتولى المظالم للمهدي وعاصر الهادي والرشيد. (انظر «الطبري» ق ٣ ص ٣٩٣، ٥٢٩، ٦٠٣، ٦٨٤، ٧٤٩، ١٠٧٥، ١٣٨٣).
(٣) كذا في ح. وفي سائر الأصول: «وجاوزني» وهو تصحيف.
(٤) الغسول: الماء يغتسل به، أو هو ما تغسل به الأيدي كالأشنان وغيره.
(٥) الدار القوراء: الواسعة الجوف.
(٦) الكلل: جمع كلة وهي ستر يخاط كالبيت (ناموسية).
(٧) في ح: «كأن المشيء يوحشها».
(٨) اليعافير: الظباء. والوهل: الفزع.
(٩) الدساتين: هي الرباطات التي توضع الأصابع عليها، واحدها دستان. وأسامي دساتين العود تنسب إلى الأصابع التي توضع عليها، فأوّلها «دستان السبابة» ويشدّ عند تسع الوتر، وقد يشدّ فوقه دستان أيضا يسمى «الزائد». ثم يلي دستان السبابة «دستان الوسطى» وقد توضع أوضاعا مختلفة فأولها يسمى «دستان الوسطى القديمة» والثاني يسمى «دستان وسطى الفرس» والثالث يسمى «دستان وسطى زلزل» لأنه أوّل من شدّه. فأما الوسطى القديمة فشدّ دستانها على قريب من الربع مما بين دستان السبابة ودستان البنصر.
ودستان وسطى الفرس على النصف فيما بينهما على التقريب. ودستان وسطى زلزل على ثلاثة أرباع ما بينهما إلى ما يلي البنصر بالتقريب. وقد يقتصر من دساتين هذه الوسطيات على واحد وربما يجمع بين اثنين منها. ثم يلي دستان الوسطى «دستان البنصر» ويشدّ على تسع ما بين دستان السبابة وبين المشط. ثم يلي دستان البنصر «دستان الخنصر» ويشدّ على ربع الوتر. (عن «مفاتيح العلوم» للخوارزمي. وراجع ما كتب في هذا المعنى في تصدير هذا الكتاب ص ٤٠).
(١٠) الناشط: الثور الوحشي وكذلك الحمار الوحشيّ. والفرد: المنفرد.