كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

22 - ذكر ابن جامع وخبره ونسبه

صفحة 504 - الجزء 6

  قال: وتوقّعت مجيء الخادم إليّ، فقلت للرجل: بأبي أنت! خذ العود فشدّ وتر كذا وارفع الطبقة وحطَّ دستان كذا؛ ففعل ما أمرته. وخرج الخادم فقال لي: تغنّ عافاك اللَّه؛ فتغنّيت بصوت الرجل الأوّل على غير ما غنّاه، فإذا جماعة من الخدم يحضرون حتى استندوا إلى الأسرّة وقالوا: ويحك! لمن هذا الغناء؟ قلت: لي؛ فانصرفوا عنّي بتلك السرعة، وخرج إليّ الخادم وقال: كذبت! هذا الغناء لابن جامع. ودار الدور؛ فلما انتهى الغناء إليّ قلت للجارية التي تلي الرجل: خذي العود، / فعلمت ما أريد فسوّت العود على غنائها للصوت الثاني فتغنّيت به. فخرجت إليّ الجماعة الأولى من الخدم فقالوا: ويحك! لمن هذا؟ قلت: لي؛ فرجعوا وخرج الخادم⁣(⁣١).

  فتغنيت بصوت لي فلا يعرف إلا بي، وسقوني فتزيّدت، وهو:

  عوجي عليّ فسلَّمي جبر ... فيم الصدود وأنتم سفر

  ما نلتقي إلا ثلاث منى ... حتى يفرّق بيننا الدهر⁣(⁣٢)

  قال: فتزلزلت واللَّه الدار عليهم. وخرج الخادم فقال: ويحك! لمن هذا الغناء؟ قلت: لي. فرجع ثم خرج فقال: كذبت! هذا غناء ابن جامع. فقلت: فأنا إسماعيل بن جامع. فما شعرت إلا وأمير المؤمنين وجعفر بن يحيى قد أقبلا من وراء الستر الذي كان يخرج منه الخادم. فقال لي الفضل بن الربيع: هذا أمير المؤمنين قد أقبل إليك.

  فلما صعد السرير وثبت قائما. فقال لي: أبن جامع؟ قلت: ابن جامع، جعلني اللَّه فداك يا أمير المؤمنين. قال:

  ويحك! متى كنت في هذه البلدة؟ قلت: آنفا، دخلتها في الوقت الذي علم بي أمير المؤمنين. قال: اجلس ويحك يا بن جامع! ومضى هو وجعفر فجلسا في بعض تلك المجالس، وقال لي: أبشر وابسط أملك؛ فدعوت له. ثم قال:

  غنّني يا بن جامع. فخطر بقلبي صوت الجارية الحميراء فأمرت الرجل / بإصلاح العود على ما أردت من الطبقة، فعرف ما أردت، فوزن العود وزنا وتعاهده حتى استقامت الأوتار وأخذت الدساتين مواضعها، وانبعثت أغنّي بصوت الجارية الحميراء. فنظر الرشيد إلى جعفر وقال: أسمعت كذا قطَّ؟ فقال: لا واللَّه / ما خرق مسامعي قطَّ مثله.

  فرفع الرشيد رأسه إلى خادم بالقرب منه فدعا بكيس فيه ألف دينار فجاء به فرمى به إليّ، فصيّرته تحت فخذي ودعوت لأمير المؤمنين. فقال: يا بن جامع، ردّ على أمير المؤمنين هذا الصوت، فرددته وتزيّدت فيه. فقال له جعفر: يا سيّدي، أما تراه كيف يتزيّد في الغناء! هذا خلاف ما سمعناه أوّلا وإن كان الأمر في اللحن واحدا. قال:

  فرفع الرشيد رأسه إلى ذلك خادم فدعا بكيس آخر فيه ألف دينار، فجاءني به فصيّرته تحت فخذي. وقال: تغنّ يا إسماعيل ما حضرك. فجعلت أقصد الصوت بعد الصوت مما كان يبلغني أنه يشتري عليه الجواري فأغنيّه؛ فلم أزل أفعل ذلك إلى أن عسعس الليل. فقال: أتعبناك يا إسماعيل هذه الليلة بغنائك، فأعد على أمير المؤمنين الصوت (يعني صوت الجارية) فتغنّيت. فدعا الخادم وأمره فأحضر كيسا ثالثا فيه ألف دينار. قال: فذكرت ما كانت الجارية قالت لي فتبسّمت، ولحظني فقال: يا بن الفاعلة، ممّ تبسمت؟ فجثوت على ركبتيّ وقلت: يا أمير المؤمنين، الصدق منجاة. فقال لي بانتهار: قل. فقصصت عليه خبر الجارية. فلما استوعبه قال: صدقت، قد يكون هذا وقام. ونزلت من السرير ولا أدري أين أقصد. فابتدرني فرّاشان فصارا بي إلى دار قد أمر بها أمير المؤمنين؛ ففرشت وأعدّ فيها جميع ما يكون في مثلها من آلة جلساء الملوك وندمائهم من الخدم، ومن كل آلة وخول إلى جوار


(١) الذي يتتبع سياق الخبر يشعر بأن هاهنا نقصا. ولعل أصل الجملة: «وخرج الخادم فقال كذبت فتغنيت ... إلخ».

(٢) كذا في جميع الأصول هنا. وفي «ترجمة العرجي» (ج ١ ص ٤٠٨ من «الأغاني» طبع دار الكتب المصرية) وفيما سيأتي في ب، س:

«النفر». والنفر: هو نفر الحاج من منى ويكون في اليوم الثاني ويسمى النفر الأول. والثاني يكون في اليوم الثالث من أيام التشريق.