كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

23 - ذكر أبي سفيان وأخباره ونسبه

صفحة 528 - الجزء 6

  واللَّه ما رأيت كالليلة قطَّ نيرانا. فقال بديل بن ورقاء: هذه واللَّه نيران خزاعة حمشتها⁣(⁣١) الحرب. فقال أبو سفيان:

  خزاعة ألأم من ذلك وأذلّ. فعرفت صوته فقلت: أبا حنظلة! فقال: أبا الفضل! قلت نعم؛ فقال: لبّيك، فداؤك أبي وأمي! فما وراءك؟ فقلت: هذا رسول اللَّه قد دلف⁣(⁣٢) إليكم بما لا قبل لكم به بعشرة آلاف من المسلمين. قال:

  فما تأمرني؟ فقلت: تركب عجز هذه البغلة فأستأمن لك رسول اللَّه / ، فو اللَّه لئن ظفر بك ليضربنّ عنقك.

  فردفني فخرجت به أركض بغلة رسول اللَّه نحو رسول اللَّه . فكلما مررت بنار من نيران المسلمين فنظروا إليّ قالوا: عمّ رسول اللَّه على بغلة رسول اللَّه ؛ حتى مررنا بنار عمر بن الخطاب - رضي اللَّه تعالى عنه - فقال: أبو سفيان! الحمد للَّه الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد؛ ثم اشتدّ نحو النبيّ ، وركضت البغلة وقد أردفت أبا سفيان - قال العباس: - حتى اقتحمت على باب القبّة وسبقت عمر بما تسبق به الدّابة البطيئة الرجل البطيء. فدخل عمر على رسول اللَّه فقال: يا رسول اللَّه، هذا أبو سفيان قد أمكن اللَّه منه بغير عهد ولا عقد، فدعني أضرب عنقه. قلت: يا رسول اللَّه، إني قد أجرته. ثم جلست إلى رسول اللَّه وأخذت برأسه وقلت: واللَّه لا يناجيه اليوم / أحد دوني. فلما أكثر فيه عمر قلت: مهلا يا عمر! فو اللَّه ما تصنع هذا إلَّا لأنّه رجل من عبد مناف، ولو كان من بني عديّ بن كعب ما قلت هذا! قال: مهلا يا عبّاس! فو اللَّه لإسلامك يوم أسلمت كان أحبّ إليّ من إسلام الخطاب لو أسلم؛ وذلك لأني أعلم أن إسلامك أحبّ إلى رسول اللَّه من إسلام الخطاب لو أسلم. فقال رسول اللَّه : «اذهب فقد أمّنّاه حتى تغدو به عليّ الغداة» فرجع به إلى منزله. فلما أصبح غدا به على رسول اللَّه . فلما رآه قال: «ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا اللَّه»! فقال: بأبي أنت وأمي! ما أوصلك وأحلمك وأكرمك! واللَّه لقد ظننت أن لو كان مع اللَّه غيره لقد أغنى عنّي شيئا. فقال: «ويحك تشهّد بشهادة الحقّ قبل واللَّه [أن]⁣(⁣٣) تضرب عنقك». / قال: فتشهّد. فقال رسول اللَّه للعبّاس من حين تشهّد أبو سفيان:

  «انصرف يا عبّاس فاحتبسه عند خطم الجبل بمضيق الوادي حتى يمرّ عليه جنود اللَّه». فقلت: يا رسول اللَّه، إنّ أبا سفيان رجل يحبّ الفخر، فاجعل له شيئا يكون في قومه. فقال: «نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن». فخرجت به حتى أجلسته عند خطم الجبل بمضيق الوادي، فمرّت عليه القبائل، فجعل يقول: من هؤلاء يا عباس؟ فأقول: سليم، فيقول: مالي ولسليم! ثم تمرّ به قبيلة فيقول: من هؤلاء؟ فأقول: أسلم، فيقول: مالي ولأسلم! وتمرّ به جهينة فيقول: من هؤلاء؟ فأقول: جهينة، فيقول: مالي ولجهينة! حتى مرّ رسول اللَّه في الخضراء، كتيبة رسول اللَّه من المهاجرين والأنصار في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق، فقال: من هؤلاء يا أبا الفضل؟ فقلت: هذا رسول اللَّه في المهاجرين والأنصار؛ فقال: يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما. فقلت: ويحك! إنها النبوّة؛ قال: نعم إذا. فقلت الحق الآن بقومك فحذّرهم. فخرج سريعا حتى أتى مكة فصرخ في المسجد: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم بمالا قبل لكم به.

  قالوا: فمه! قال: من دخل داري فهو آمن. فقالوا: ويحك ما تغني عنّا دارك! قال: ومن دخل المسجد فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن.


(١) حمش الشيء: جمعه وفلانا هيجه.

(٢) يقال: دلفت الكتيبة إلى الكتيبة في الحرب أي تقدمت.

(٣) زيادة عن الطبري.