كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

جرير

صفحة 281 - الجزء 8

  بعضها إلى بعض! - قال: وأنا جالس أسمع - فقال الوليد: واللَّه لهممت أن أخرجه على ظهرك إلى الناس. فقال جرير وهو قائم كما هو:

  /

  فإن تنهني عنه فسمعا وطاعة ... وإلا فإنّي عرضة للمراجم⁣(⁣١)

  قال فقال له الوليد: لا كثّر اللَّه في الناس أمثالك. فقال له جرير: يا أمير المؤمنين، إنما أنا واحد قد سعرت⁣(⁣٢) الأمّة، فلو كثر أمثالي لأكلوا الناس أكلا. قال: فنظرت واللَّه إلى الوليد تبسّم حتى بدت ثناياه تعجّبا من جرير وجلده. قال: ثم أمره فجلس.

  أخبرني ابن عمّار قال حدّثني عمر بن محمد بن عبد الملك الزيّات قال حدّثنا ابن النّطاح عن أبي عبيدة قال:

  كان / جرير عند الوليد وعديّ بن الرّقاع ينشده. فقال الوليد لجرير: كيف تسمع؟ قال: ومن هو يا أمير المؤمنين؟ قال: عديّ بن الرّقاع. قال: فإن شر الثيّاب الرّقاع، ثم قال جرير: {عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى ناراً حامِيَةً}⁣(⁣٣)؛ فغضب الوليد وقال: يا بن اللَّخناء! ما بقي لك إلا أن⁣(⁣٤) تتناول كتاب اللَّه! واللَّه ليركبنّك! يا غلام أوكفه⁣(⁣٥) حتى يركبه. فغمز عمر بن الوليد الغلام الذي أمره الوليد فأبطأ بالإكاف. فلما سكن غضب الوليد قام إليه عمر فكلَّمه وطلب إليه وقال: هذا شاعر مضر ولسانها، فإن رأى أمير المؤمنين ألَّا يغضّ منه! ولم يزل به حتى أعفاه، وقال له:

  واللَّه لئن هجوته أو عرّضت به لأفعلنّ بك ولأفعلنّ!. فقال فيه تلك القصيدة التي يقول فيها:

  أقصر فإن نزارا لن يفاخرها ... فرع لئيم وأصل غير مغروس

  وذكر وقائع نزار في اليمن؛ فعلمنا أنّه عناه. ولم يجبه الآخر بشيء.

  وصف شبة بن عقال وخالد بن صفوان له وللفرزدق والأخطل

  : حدّثني عمّي قال حدّثنا الكرانيّ قال حدّثنا العمريّ عن العتبيّ قال:

  / قال هشام بن عبد الملك لشبّة بن عقال وعنده جرير والفرزدق والأخطل، وهو يومئذ أمير ألا تخبرني عن هؤلاء الذين قد مزّقوا أعراضهم وهتكوا أستارهم وأغروا بين عشائرهم في غير خير ولا برّ ولا نفع أيّهم أشعر؟ فقال شبّة: أما جرير فيغرف من بحر، وأما الفرزدق فينحت من صخر، وأما الأخطل فيجيد المدح والفخر. فقال هشام:

  ما فسّرت لنا شيئا نحصّله. فقال ما عندي غير ما قلت. فقال لخالد بن صفوان: صفهم لنا يا بن الأهتم؛ فقال: أما أعظمهم فخرا، وأبعدهم ذكرا، وأحسنهم عذرا؛ وأسيرهم⁣(⁣٦) مثلا، وأقلَّهم غزلا، وأحلاهم عللا؛ الطامي إذا زخر، والحامي إذا زأر، والسامي إذا خطر؛ الذي إن هدر قال، وإن خطر صال؛ الفصيح اللسان، الطويل العنان؛ فالفرزدق. وأما أحسنهم نعتا، وأمدحهم بيتا، وأقلَّهم فوتا؛ الذي إن هجا وضع، وإن مدح رفع، فالأخطل. وأما أغزرهم بحرا، وأرقّهم شعرا، وأهتكهم لعدوّه ستّرا؛ الأغرّ الأبلق، الذي أن طلب لم يسبق، وإن طلب لم يلحق؛


(١) يقال: فلان عرضة للكلام إذا كان كثيرا ما يعترضه كلام الناس ويقذف به. والمراجم: الكلم القبيحة.

(٢) سعرت الأمة، يريد أوقدت فيها الشر.

(٣) يريد التعريض بعاملة قبيلة عديّ بن الرقاع.

(٤) ويحتمل أن تكون العبارة: ... إلا أن تتأوّل كتاب اللَّه».

(٥) أوكف الدابة: وضع عليها الإكاف، وهو البرذعة.

(٦) في الأصول: «وأشدّهم مثلا».