جميل
  وقرّبن أسباب الهوى لمتيّم ... بقيس ذراعا كلَّما قسن إصبعا
  قال: فصاح جميل واستخذى وقال: ألا إن النّسيب أخذ من هذا، وما أنشده حرفا، فقال له عمر: اذهب بنا إلى بثينة حتى نسلَّم عليها. فقال له جميل: قد أهدر لهم السلطان دمي إن وجدوني عندها، وهاتيك أبياتها. فأتاها عمر حتى وقف على أبياتها وتأنّس حتى كلَّم؛ فقال: / يا جارية، أنا عمر بن أبي ربيعة، فأعلمي بثينة مكاني. فخرجت إليه بثينة في مباذلها وقالت: واللَّه يا عمر لا أكون من نسائك اللَّاتي يزعمن أن قد قتلهنّ الوجد بك؛ فانكسر عمر؛ قال وإذا امرأة أدماء طوالة.
  وأخبرني بهذا الخبر عليّ بن صالح عن أبي هفّان عن إسحاق عن المسيّبيّ والزّبير فذكر مثل ما ذكره الزبير وزاد فيه قال: فقال لها قول جميل:
  /
  وهما قالتا لو أنّ جميلا ... عرض اليوم نظرة فرآنا
  بينما ذاك منهما وإذا بي(١) ... أعمل النّصّ(٢) سيرة زفيانا
  نظرت نحو تربها ثم قالت ... قد أتانا - وما علمنا - منانا
  فقالت: إنه استملى منك فما أفلح؛ وقد قيل: اربط الحمار مع الفرس، فإن لم يتعلَّم من جريه تعلَّم من خلقه.
  لقي بثينة ورصده أهلها فهددهم ثم هجرته بثينة وشعره في ذلك
  : وذكر الهيثم بن عديّ وأصحابه في أخبارهم: أن جميلا طال مقامه بالشأم ثم قدم، وبلغ بثينة خبره فراسلته مع بعض نساء الحيّ تذكر شوقها إليه ووجدها به وطلبها للحيلة في لقائه، وواعدته لموضع يلتقيان فيه؛ فسار إليها وحدّثها طويلا وأخبرها خبره بعدها. وقد كان أهلها رصدوها، فلما فقدوها تبعها أبوها وأخوها حتى هجما عليهما، فوثب جميل فانتضى سيفه وشدّ عليهما فاتّقياه بالهرب؛ وناشدته بثينة اللَّه إلَّا انصرف، وقالت له: إن أقمت فضحتني، ولعل الحيّ أن يلحقوك. فأبى وقال: أنا مقيم وامضي أنت وليصنعوا ما أحبّوا. فلم تزل تناشده حتى انصرف. وقال في ذلك وقد هجرته وانقطع التلاقي بينهما مدّة:
  ألم تسأل الربع الخلاء فينطق ... وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق(٣)
  وقفت بها حتى تجلَّت عمايتي ... وملّ الوقوف الأرحبيّ(٤) المنوّق
  تعزّ وإن كانت عليك كريمة ... لعلَّك من رقّ لبثنة تعتق
  لعمركم إن البعاد لشائقي ... وبعض بعاد البين والنأي أشوق
  / لعلَّك محزون ومبد صبابة ... ومظهر شكوى من أناس تفرّقوا
  وبيض غريرات تثنّي خصورها ... إذا قمن أعجاز ثقال وأسؤق
(١) كذا في ح وفي سائر الأصول: «وأتاني» وهو تحريف.
(٢) النص: السير الشديد. وزفيانا: سريعا.
(٣) سملق: مقفرة لا نبات بها. وقد وردت هذه القصيدة. في «منتهى الطلب من أشعار العرب» مختلفة الألفاظ عما هنا.
(٤) الأرحبيّ: النجيب من الإبل، ينسب إلى قبيلة بني أرحب. والمنوّق: الذلول.