جميل
  غرائز لم يلقين بؤس معيشة ... يجنّ بهنّ الناظر(١) المتنوّق
  وغلغلت(٢) من وجد إليهنّ بعد ما ... سريت وأحشائي من الخوف تخفق
  معي صارم قد أخلص القين صقله ... له حين أغشيه الضّريبة رونق
  فلو لا احتيالي ضقن ذرعا بزائر ... به من صبابات إليهنّ أولق(٣)
  تسوك بقضبان الأراك مفلَّجا ... يشعشع فيه الفارسيّ(٤) المروّق
  أبثنة للوصل الذي كان بيننا ... نضا مثل ما ينضوا الخضاب فيخلق
  أبثنة ما تنأين إلا كأنّني ... بنجم الثّريّا ما نأيت معلَّق
  أنشد إسحاق الرشيد أحسن شعره في العتاب
  : أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:
  دخلت على الرشيد يوما فقال لي: يا إسحاق، أنشدني أحسن ما تعرف في عتاب محبّ وهو ظالم متعتّب(٥).
  / فقلت: يا أمير المؤمنين قول جميل:
  رد الماء ما جاءت بصفو ذنائبه(٦) ... ودعه إذا خيضت بطرق(٧) مشاربه
  أعاتب من يحلو لديّ عتابه ... وأترك من لا أشتهي وأجانبه
  ومن لذّة الدنيا وإن كنت ظالما ... عناقك مظلوما وأنت تعاتبه
  / فقال: أحسن واللَّه! أعدها عليّ؛ فأعدتها حتى حفظها، وأمر لي بثلاثين ألف درهم وتركني وقام فدخل إلى دار الحرم.
  ذهب معه صديق له إلى بثينة فطارده أهلها فرجع
  : أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن السّعيديّ(٨) قال: حدّثني رجل كان يصحب جميلا من أهل تيماء قال:
  كنت يوما جالسا مع جميل وهو يحدّثني وأحدّثه، إذ ثار وتربّد وجهه، فأنكرته ورأيت منه غير ما كنت أرى، ووثب نافرا مقشعرّ الشعر متغيّر اللون، حتى أتي بناقة له قريبة من الأرض مجتمعة موثّقة الخلق فشدّ عليها رحله، ثم أتي بمحلب فيه لبن فشربه، ثم ثنّى فشربت حتى رويت؛ ثم قال لي: اشدد أداة رحلك واشرب واسق جملك
(١) تنوّق في أموره: جوّد وبالغ.
(٢) غلغل الرجل: دخل في تعب وشدّة. وفي «ديوان منتهى الطلب من أشعار العرب»: «تنضيت» ومعناها: هزلت.
(٣) الأولق: الجنون.
(٤) الفارسيّ: من أسماء الخمر.
(٥) متعتب: متجنّ.
(٦) الذنائب: جمع ذنوب وهي الدلو العظيمة.
(٧) الطرق: أن تبول الإبل في الماء وتبعر فتكدره. ويقال للماء الذي خوّضته الإبل فبالت فيه وبعرت: مطروق وطرق.
(٨) في ب، س: «السعدي».