كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

جميل

صفحة 330 - الجزء 8

  ألم تعلمي يا عذبة الرّيق أنّني ... أظلّ إذا لم أسق ريقك صاديا

  قال: فرقّت له بثينة، وقالت لمولاة لها كانت معها: ما أحسن الصدق بأهله! ثم اصطلحا. فقالت له بثينة: أنشدني قولك:

  تظلّ وراء السّتر ترنو بلحظها ... إذا مرّ من أترابها من يروقها

  فأنشدها إيّاها؛ فبكت وقالت: كلَّا يا جميل! ومن ترى أنه يروقني غيرك!.

  نعي جميل وحزن بثينة عليه

  : أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ وحبيب بن نصر المهلَّبي قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال ذكر أيوب بن عباية قال: خرجت من تيماء في أغباش⁣(⁣١) السّحر، فرأيت عجوزا على أتان، فتكلَّمت فإذا أعرابية فصيحة. فقلت: ممن أنت؟ فقالت: عذريّة. فأجريت ذكر جميل وبثينة؛ فقالت: واللَّه إنّا لعلى ماء لنا بالجناب وقد تنكَّبنا الجادّة⁣(⁣٢) لجيوش كانت تأتينا من قبل الشأم تريد الحجاز، وقد خرج رجالنا لسفر وخلَّفوا معنا أحداثا؛ فانحدروا ذات عشيّة إلى صرم⁣(⁣٣) قريب منا يتحدّثون إلى جوار منهم، فلم يبق غيري وغير بثينة، إذ انحدر علينا منحدر من هضبة تلقاءنا، فسلَّم ونحن مستوحشون وجلون. فتأمّلته ورددت السلام فإذا جميل. فقلت: أجميل؟ قال: إي واللَّه؛ وإذا به لا يتماسك جوعا، فقمت إلى قعب لنا فيه أقطَّ⁣(⁣٤) مطحون وإلى عكَّة⁣(⁣٥) فيها سمن وربّ⁣(⁣٦)، فعصرتها على الأقط / ثم أدنيتها منه وقلت:

  أصب من هذا، فأصاب منه؛ وقمت إلى سقاء فيه لبن فصببت عليه ماء باردا فشرب منه وتراجعت نفسه. فقلت له: لقد بلغت ولقيت شرّا، فما أمرك؟ قال: أنا واللَّه في هذه الهضبة التي ترين منذ ثلاث ما أريمها أنتظر أن أرى فرجة، فلما رأيت منحدر فتيانكم أتيتكم لأودّعكم وأنا عامد إلى مصر. فتحدّثنا ساعة ثم ودّعنا وشخص، فلم تطل غيبته أن جاءنا نعيه. فزعموا أنه قال حين حضرته الوفاة:

  صدع⁣(⁣٧) النّعيّ وما كنى بجميل ... وثوى بمصر ثواء غير قفول

  ولقد أجر الذّيل في وادي القرى ... نشوان بين مزارع ونخيل

  قومي بثينة فاندبي بعويل ... وابكي خليلك دون كلّ خليل

  أخبرني أبو الحسن الأسديّ قال حدّثني محمد بن القاسم عن الأصمعيّ قال: حدّثني رجل شهد جميلا لمّا حضرته الوفاة بمصر أنه دعاه فقال: هل لك في أن أعطيك كلّ ما أخلَّفه على أن تفعل شيئا أعهده إليك؟ فقال قلت:

  اللهم نعم. قال: إذا أنا متّ فخذ حلَّتي هذه التي في عيبتي فاعزلها جانبا ثم كلّ شيء سواها لك، وارحل إلى رهط بني الأحبّ من عذرة - وهم رهط بثينة - فإذا صرت إليهم فارتحل ناقتي هذه واركبها، ثم البس حلَّتي هذه واشققها


(١) الغبش: ظلمة آخر الليل.

(٢) الجادة: الطريق.

(٣) الصرم: الجماعة من الناس ليسوا بالكثير.

(٤) الأقط (بفتح فكسر)، وفيه لغات أخرى هذه أفصحها: لبن مجفف يابس مستحجر يطبخ به.

(٥) العكة: زقيق صغير للسمن.

(٦) الرب: ما يطبح من التمر.

(٧) صدع: جاهر وصرح.