يزيد بن الطئرية
  بيّتوا جرما فاصطلموها(١). وقال بعضهم: قبيح! قوم قد سقيتموهم مياهكم وأرعيتموهم مراعيكم وخلطتموهم بأنفسهم وأجرتموهم من القحط والسّنة تفتاتون عليهم هذا الافتيات! لا تفعلوا، ولكن تصبحوا(٢) وتقدّموا إلى هؤلاء القوم في هذا الرجل، فإنه سفيه من سفهائهم فليأخذوا على يديه. فإن يفعلوا فأتمّوا لهم إحسانكم، وإن يمتنعوا ويقرّوا ما كان منه يحلّ لكم البسط عليهم وتخرجوا من ذمّتهم؛ فأجمعوا على ذلك. فلما أصبحوا غدا نفر منهم إلى جرم فقالوا: ما هذه البدعة التي قد جاورتمونا بها! إن كانت هذه البدعة سجيّة لكم فليس لكم عندنا إرعاء ولا إسقاء، فبرّزوا عنّا أنفسكم وأذنوا بحرب. وإن كان افتتانا فغيّروا(٣) على من فعله. وإنهم لم يعدوا أن قالوا لجرم ذلك. فقام رجال من جرم وقالوا: ما هذا الذي نالكم؟ قالوا: رجل منكم أمس ظلّ يجرّ أذياله بين أبياتنا ما ندري علام كان أمره! فقهقهت جرم من جفاء / القشيريّين وعجرفيّتها وقالوا: إنكم لتحسّون من نسائكم ببلاء؛ ألا فابعثوا إلى بيوتنا رجلا ورجلا. فقالوا: واللَّه ما نحسّ من نسائنا ببلاء، وما نعرف منهنّ إلا العفّة والكرم، ولكن فيكم الذي قلتم. قالوا: فإنّا نبعث رجلا إلى بيوتكم يا بني قشير إذا غدت الرجال وأخلف النساء، وتبعثون رجلا إلى البيوت، ونتحالف أنّه لا يتقدّم رجل منّا إلى زوجة ولا أخت ولا بنت ولا يعلمها بشيء مما دار بين القوم؛ فيظلّ كلاهما في بيوت أصحابه حتى يردا علينا عشيّا الماء وتخلى لهما البيوت(٤)، ولا تبرز عليهما امرأة ولا تصادق منهما واحدا فيقبل منهما صرف ولا(٥) عدل إلا بموثق يأخذه عليها وعلامة / تكون معه منها. قالوا: اللَّهمّ نعم. فظلَّوا يومهم ذلك وباتوا ليلتهم، حتى إذا كان من الغد غدوا(٦) إلى الماء وتحالفوا أنّه لا يعود إلى البيوت منهم أحد دون الليل. وغدا ميّاد الجرميّ إلى القشيريّات، وغدا يزيد بن الطَّثريّة القشيريّ إلى الجرميّات؛ فظل عندهنّ بأكرم مظلّ لا يصير إلى واحدة منهنّ إلا افتتنت به وتابعته إلى المودّة والإخاء وقبض منها رهنا وسألته ألَّا يدخل من بيوت جرم إلَّا بيتها، فيقول لها: وأيّ شيء تخافين وقد أخذّت منّي المواثيق والعهود وليس لأحد في قلبي نصيب غيرك؛ حتى صلَّيت العصر. فانصرف يزيد بفتخ(٧) كثير [وذبل](٨) وبراقع وانصرف مكحولا مدهونا شبعان ريّان مرجّل اللَّمّة(٩).
  وظلّ ميّاد الجرميّ يدور بين بيوت القشيريّات مرجوما مقصى لا يتقرّب إلى بيت إلا استقبلته الولائد بالعمد(١٠) والجندل، فتهالك لهنّ وظنّ أنه ارتياد(١١) منهنّ له، حتى أخذه ضرب كثير بالجندل ورأى البأس(١٢) منهنّ وجهده العطش، فانصرف حتى جاء إلى سمرة(١٣) قريبا إلى نصف النهار، فتوسّد يده ونام تحتها نويمة حتى أفرجت عنه
(١) اصطلمه: استأصله.
(٢) أي لتصبحوا، فالفعل مجزوم بلام محذوفة.
(٣) أي ازجروه وأنكروا عليه ما فعله واصرفوه عنه.
(٤) هذه العبارة: «وتخلى لهما البيوت» ساقطة من جميع الأصول ما عدا ب، س.
(٥) «في الأصول»: «فيقبل منهما صرفا ولا عدلا» وقد جعلناها (صرف ولا عدل) بالرفع على أنه نائب الفاعل وهو الفصيح الكثير.
(٦) كذا في ب، س. وفي سائر الأصول و «تجريد الأغاني»: «تواعدوا الماء».
(٧) الفتخ (كسبب): واحده فتخة، وهي حلقة من فضة لا فص لها، فإذا كان فيها فص فهي الخاتم.
(٨) هذه الكلمة ساقطة من ب، س. والذبل: جلد السلحفاة البرّية، وقيل: البحرية، وقيل: عظام ظهر دابة من دواب البحر تتخذ النساء منه الأسورة والأمشاط.
(٩) في «تجريد الأغاني»: «الجمة». واللمة (بالكسر): الشعر المجاوز شحمة الأذن، فإذا بلغ المنكبين فهو الجمة.
(١٠) العمد (بفتحتين وبضمتين أيضا): قضبان الحديد. والجندل: الحجارة.
(١١) الارتياد: الطلب.
(١٢) في ح، ء، م: «اليأس» بالياء المثناة التحتية.
(١٣) السمرة: شجرة من العضاه.