كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

جميلة

صفحة 379 - الجزء 8

  أعقابكم لأهل العراق وغيرهم ممّن لا يزال ينكر عليكم ما هو وارثه عنكم، لا ينكره عالمكم ولا يدفعه عابدكم بشهادة شريفكم ووضيعكم يندب إليه كما يندب جموعكم وشرفكم وعزكم⁣(⁣١). فأكثر ما يكون عند عابدكم فيه الجلوس عنه لا للتحريم له لكن للزهد في الدنيا؛ لأن الغناء من أكبر اللذات وأسرّ النفوس من جميع الشهوات؛ يحيي القلب ويزيد في العقل ويسرّ النفس ويفسح في الرأي ويتيسّر به العسير وتفتح به الجيوش ويذلَّل به الجبّارون حتى يمتهنوا أنفسهم عند استماعه، ويبرئ المرضى ومن مات قلبه وعقله وبصره، ويزيد أهل الثروة غنى وأهل الفقر قناعة ورضا باستماعه فيعزفون⁣(⁣٢) عن طلب الأموال. من تمسّك به كان عالما ومن فارقه كان جاهلا؛ لأنه لا منزلة أرفع ولا شيء أحسن منه؛ فكيف يستصوب تركه ولا يستعان به على النشاط في عبادة ربّنا ø. وكلام كثير غير هذا ذهب عن⁣(⁣٣) المحدّث به، فما ردّ عليه أحد ولا أنكر ذلك منهم بشر، وكلّ عاد بالخطأ على نفسه وأقرّ بالحق⁣(⁣٤) له. ثم قال لجميلة: أوعيت ما قلت ووقع من نفسك ما ذكرت؟ قالت: أجل وأنا أستغفر اللَّه. قال لها:

  فاختمي مجلسنا وفرّقي جماعتنا بصوت فقط؛ فغنّت:

  أفي رسم دار دمعك المترقرق ... سفاها! وما استنطاق ما ليس ينطق

  / بحيث التقى جمع وأقصى محسّر⁣(⁣٥) ... مغانيه قد كادت عن العهد تخلق

  مقام لنا بعد العشاء ومنزل ... به لم يكدّره علينا معوّق

  فأحسن شيء كان أوّل ليلنا ... وآخره حزن إذا نتفرّق

  فقال الشيخ: حسن واللَّه! أمثل هذا يترك⁣(⁣٦)! فيم نتشاهد الرجال! لا واللَّه ولا كرامة لمن خالف الحقّ. ثم قام وقام الناس معه، وقال: الحمد للَّه الذي لم يفرّق جماعتنا على اليأس من الغناء ولا جحود فضيلته، وسلام عليك ورحمة اللَّه يا جميلة.

  وصف مجلس لها غنت فيه ورقصت وغنى المغنون ورقصوا

  : وقال أبو عبد اللَّه: جلست جميلة يوما ولبست برنسا طويلا، وألبست من كان عندها برانس دون ذلك، وكان في القوم ابن سريج، وكان قبيح الصّلع قد اتخذ وفرة شعر⁣(⁣٧) يضعها على رأسه، وأحبّت جميلة أن ترى صلعته.

  فلما بلغ البرنس إلى ابن سريج قال: دبّرت عليّ وربّ الكعبة! وكشف صلعته ووضع القلنسية على رأسه، وضحك القوم من قبح صلعته؛ ثم قامت جميلة ورقصت وضربت بالعود وعلى رأسها البرنس الطويل وعلى عاتقها بردة يمانية وعلى القوم أمثالها، وقام ابن سريج يرقص ومعبد والغريض وابن عائشة ومالك وفي يد كلّ واحد منهم عود يضرب به على ضرب جميلة ورقصها؛ فغنّت وغنّى القوم على غنائها:


(١) وردت هذه الجملة هكذا في الأصول، وهي غير واضحة.

(٢) في ج: «فيستغنون».

(٣) في ب، س: «ذهب على المحدث» وهو تحريف.

(٤) في ب، س: بالفضل له.

(٥) جمع: علم للمزدلفة. ووادي محسر: موضع بين منى والمزدلفة وليس من منى ولا مزدلفة بل هو واد برأسه، وقيل فيه غير ذلك.

راجع «معجم البلدان» لياقوت.

(٦) في ب، س: «أمثل هذا ينزل فيه مشاهد الرجال لا واللَّه لا ينزل هذا ولا كرامة» وهي محرفة.

(٧) كذا فيما سيأتي. وفي الأصول هنا: «وفرة شعرة» وهو تحريف. والوفرة: الشعر المجتمع على الرأس أو ما سال على الأذنين منه.