سلامة القس
  مررت في بعض الطريق فسمعت صوتا أعجبني حسنه وجودة شعره؛ فوقفت حتى استقصيت خبره، فإذا هو الغريض، وإذا هو يغنّي بأحسن صوت وأشجاه:
  ألا هاج التذكَّر لي سقاما ... ونكس الداء والوجع الغراما(١)
  سلامة إنها(٢) همّي ودائي ... وشرّ الداء ما بطن العظاما
  فقلت له ودمع العين يجري ... على الخدّين أربعة سجاما(٣)
  عليك لها السلام فمن لصبّ ... يبيت الليل يهذي مستهاما
  قال يزيد: ويلك يا أحوص! أنا ذاك في هوى خليلتي؛ وما كنت أحسب مثل هذا يتّفق، وإنّ ذاك لمما يزيد لها في قلبي. فلما صنعت يا أحوص حين / سمعت ذاك؟ قال: سمعت ما لم أسمع يا أمير المؤمنين أحسن منه، فما صبرت حتى أخرجت الغريض معي وأخفيت أمره، وعلمت أنّ أمير المؤمنين يسألني عما رأيت في طريقي. فقال له يزيد: ائتني بالغريض ليلا وأخف أمره. فرجع الأحوص إلى منزله وبعث إلى سلَّامة بالخبر. فقالت للرسول: قل له جزيت خيرا، قد انتهى إليّ كلّ ما قلت، وقد تلطَّفت وأحسنت. فلمّا وارى الليل أهله بعث إلى الأحوص أن عجّل المجيء إليّ مع ضيفك. فجاء الأحوص مع الغريض فدخلا عليه. فقال غنّني الصوت الذي أخبرني الأحوص أنه سمعه منك - وكان الأحوص قد أخبر الغريض الخبر؛ / وإنما ذلك شعر قاله الأحوص يريد يحرّكه به على سلَّامة ويحتال للغريض في الدخول عليه - فقال: غنّني الصوت الذي أخبرني الأحوص. فلما غنّاه الغريض دمعت عين يزيد ثم قال: ويحك!. هل يمكن أن تصير إلى مجلسي؟ قيل له: هي صالحة. فأرسل إليها فأقبلت. فقيل ليزيد: قد جاءت؛ فضرب لها حجاب فجلست، وأعاد عليه(٤) الغريض الصوت؛ فقالت: أحسن واللَّه يا أمير المؤمنين، فاسمعه منّي؛ فأخذت العود فضربته وغنّت الصوت، فكاد يزيد أن يطير فرحا وسرورا، وقال: يا أحوص، إنّك لمبارك! يا غريض غنّني في ليلتي هذا الصوت؛ فلم يزل يغنّيه حتى قام يزيد وأمر لهما بمال، وقال: لا يصبح الغريض في شيء من دمشق. فارتحل الغريض من ليلته، وأقام الأحوص بعده أيّاما ثم لحق به؛ وبعثت سلَّامة إليهما بكسوة ولطف كثير.
  رثت يزيد وناحت عليه حين مات
  : أخبرني أحمد بن عبيد اللَّه بن عمّار قال حدّثني عليّ بن محمد النّوفليّ قال حدّثني رجل من أهلي من بني نوفل قال:
  قدمت في جماعة من قريش على يزيد بن عبد الملك، فألفيناه في علَّته التي مات فيها بعد وفاة حبابة، فنزلنا منزلا لاصقا بقصر يزيد، فكنّا إذا أصبحنا بعثنا بمولى لنا يأتينا بخبره، وربما أتينا الباب فسألنا، فكان يثقل في كلّ يوم. فإنّا لفي منزلنا ليلة إذ سمعنا همسا من بكاء ثم يزيد ذلك، ثم سمعنا صوت سلَّامة القسّ وهي رافعة صوتها تنوح وتقول:
(١) الغرام: الملازم الشديد.
(٢) كذا في أ، م. وفي سائر الأصول: «إنما همي ...».
(٣) أربعة سجام: يريد بها اللحاظين والموقين للعينين، فإن الدمع يجري من الموقين، فإذا غلب وكثر جرى من اللحاظين أيضا.
(٤) كذا في ج. وفي سائر الأصول: «عليها».