كثير عزة
  خرج كثيّر في الحاجّ بجمل له يبيعه، فمرّ بسكينة بنت الحسين ومعها عزّة وهو لا يعرفها. فقالت سكينة: هذا كثيّر فسوموه بالجمل، فساموه فاستام مائتي درهم فقالت: ضع عنّا فأبى. فدعت له بتمر وزبد فأكل، ثم قالت له:
  ضع عنا كذا وكذا (لشيء يسير) فأبى. فقالوا: قد أكلت يا كثيّر بأكثر مما نسألك! فقال:
  / ما أنا بواضع شيئا. فقالت سكينة: اكشفوا، فكشفوا عنها وعن عزّة. فلما رآهما استحيا وانصرف وهو يقول: هو لكم هو لكم!.
  قال بعض الرواة إنه لم يكن صادقا في عشقه:
  من ذكر أن كثيّرا كان يكذب في عشقه:
  أخبرنا أبو خليفة قال حدّثنا ابن سلَّام قال:
  كان كثيّر مدّعيا ولم يكن عاشقا، وكان جميل صادق الصبّابة والعشق.
  أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ وحبيب بن نصر المهلَّبيّ قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال(١) زعم إسحاق بن إبراهيم أنه سمع أبا عبيدة يقول: كان جميل يصدق في حبه، وكان كثيّر يكذب.
  ومما وجدناه في أخباره ولم نسمعه من أحد أنه نظر إلى عزّة ذات يوم وهي منتقبة تميس في مشيتها، فلم يعرفها كثيّر، فاتّبعها وقال: يا سيّدتي! قفي حتّى أكلَّمك فإني لم أر مثلك قطَّ، فمن أنت ويحك؟ قالت: ويحك! وهل تركت عزّة فيك بقيّة لأحد؟ قال: بأبي أنت! واللَّه لو أنّ عزّة أمة لي لوهبتها لك.
  قالت: فهل لك في المخاللة؟ قال: وكيف لي بذلك؟ قالت: أنّي وكيف بما قلت في عزّة؟! قال: أقلبه فأحوّله إليك. فسفرت عن وجهها ثم قالت: أغدرا يا فاسق وإنك لهكذا! فأبلس(٢) ولم ينطق وبهت. فلما مضت أنشأ يقول:
  ألا ليتني قبل الذي قلت شيب لي ... من السمّ جدحات(٣) بماء الذّرارح
  فمتّ ولم تعلم عليّ خيانة ... وكم طالب للريح ليس برابح
  / أبوء بذنبي إنني قد طلمتها ... وإني بباقي سرّها غير بائح
  لقي عزة في طريقه إلى مصر وتعاتبا:
  أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثني عمر بن شبّة قال زعم ابن الكلبيّ عن أبي المقوّم قال أخبرني سائب راوية كثيّر قال:
  خرجت معه نريد مصر، فمررنا بالماء الذي فيه عزّة فإذا هي في خباء، فسلَّمنا جميعا، فقالت عزة: وعليك السلام يا سائب. ثم أقبلت على كثيّر فقالت: ويحك! ألا تتّقي اللَّه! أرأيت قولك:
  بآية ما أتيتك أمّ عمرو ... فقمت لحاجتي والبيت خالي
(١) في ج: «زعم لي إسحاق بن إبراهيم ... إلخ».
(٢) أبلس: سكت وتحير.
(٣) في ب، س: «بخضخاض». وفي سائر الأصول: «بخدخاد». والتصويب عن «تجريد الأغاني». والجدحة اللتة؛ يقال: جدح السويق: إذالته. والذرارح: دويبات أعظم من الذباب شيئا مجزعة مبرقشة بحمرة وسواد وصفرة لها أجنحة تطير بها وهي سم قاتل.