كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

- صوت من مدن معبد

صفحة 121 - الجزء 9

  وعزّة! ما كان أوفاهما وأكرمهما وأصونهما لأنفسهما! لقد ذكرت بهذه الأودية التي نحن فيها خبر عزّة حين خضبت كثيّرا. فقال ابن عائشة: وكيف كان حديث ذلك؟ قلت: حدّثني من حضره بذلك - ومن ها هنا تتفق رواية عمر بن شبّة والزّبيريّ - قال: خرج كثيّر يريد عزّة وهي منتجعة بالصّواري وهي الأودية بناحية فدك، فلما كان منها قريبا وعلم أن القوم جلسوا عند أنديتهم للحديث بعث أعرابيا فقال له: اذهب إلى ذلك الماء فإنك ترى امرأة جسيمة لحيمة تبالط الرجال الشعر - قال إسحاق: المبالطة: أن تنشد أوّل الشعر وآخره - فإذا رأيتها فناد: من رأى الجمل الأحمر؟ مرارا. ففعل. فقالت له: ويحك قد أسمعت فانصرف إليه فأخبره. فلم يلبث أن أقبلت جارية معها طست وتور⁣(⁣١) وقربة ماء حتى انتهت إليه، ثم جاءت بعد ذلك عزّة فرأته جالسا محتبيا قريبا من ذراع راحلته. فقالت له: ما على هذا فارقتك!. فركب راحلته وهي باركة وقامت إلى لحيته فأخذت التّور فخضبته وهو على ظهر جمله حتى فرغت من خضابه، ثم نزل فجعلا يتحدّثان حتى علق الخضاب، ثم قامت إليه فغسلت لحيته ودهنته، ثم قام فركب وقال:

  /

  إنّ أهل الخضاب قد تركوني ... موزعا مولعا بأهل الخضاب

  وذكر باقي الأبيات كلَّها. وإلى ها هنا رواية عمر بن شبّة. فقال ابن عائشة: فأنا واللَّه أغنيّه وأجيده، فهل لكم في ذلك؟ فقلنا: وهل لنا عنه مدفع! فاندفع يغنّي بالأبيات، فخيّل إليّ أن الأودية تنطق معه حسنا. فلمّا رجعنا إلى المدينة قصصت القصّة، فقيل لي: إن ذلك أحسن صوت يغنّيه ابن عائشة؟ فقلت: لا أدري إلَّا أني سمعت شيئا وافق محبّتي.

  معبد وابن سريج يبكيان أهل مكة بغنائهما:

  وقال عبد اللَّه بن أبي سعد حدّثني عبد اللَّه بن الصّبّاح عن هشام بن محمد عن أبيه قال:

  زار معبد ابن سريج والغريض بمكة؛ فخرجا به إلى التّنعيم⁣(⁣٢) ثم صاروا إلى الثّنيّة العليا ثم قالوا: تعالوا حتى نبكي أهل مكة؛ فاندفع ابن سريج فغنّى صوته في شعر كثير بن كثير السّهميّ:

  أسعديني بعبرة أسراب ... من دموع كثيرة التّسكاب

  فأخذ أهل مكة في البكاء وأنّوا حتى سمع أنينهم. ثم غنّى معبد:

  صوت

  يا راكبا نحو المدينة جسرة ... أجدا⁣(⁣٣) تلاعب حلقة وزماما

  / اقرأ على أهل البقيع من امرئ ... كمد على أهل البقيع سلاما

  كم غيّبوا فيه كريما ما جدا ... شهما ومقتبل الشباب غلاما

  ونفيسة في أهلها مرجوّة ... جمعت صباحة صورة وتماما


(١) تور: إناء صغير.

(٢) التنعيم: موضع بمكة على بعد فرسخين منها. ومنه يحرم المكيون بالعمرة.

(٣) ناقة جسرة: ضخمة. وأجد: قوية موثقة الخلق.