ذكر قيس بن ذريح ونسبه وأخباره
  أبواه يغريانه بطلاقها ويأبى هو:
  فأقامت معه مدّة لا ينكر أحد من صاحبه شيئا. وكان أبرّ الناس بأمّه، فألهته لبنى وعكوفه عليها عن بعض ذلك، فوجدت أمّه في نفسها وقالت: لقد شغلت هذه المرأة ابني عن برّي؛ ولم تر للكلام في ذلك موضعا حتى مرض مرضا شديدا. فلما برأ من علَّته قالت أمّه لأبيه: لقد خشيت أن يموت قيس وما يترك خلفا وقد حرم الولد من هذه المرأة، وأنت ذو مال فيصير مالك إلى الكلالة(١)، فزوّجه بغيرها لعل اللَّه أن يرزقه ولدا، وألحّت عليه في ذلك. فأمهل قيسا حتى إذا اجتمع قومه دعاه فقال: يا قيس، إنك اعتللت هذه العلَّة فخفت عليك ولا ولد لك ولا لي سواك. وهذه المرأة ليست بولود؛ فتزوّج إحدى بنات عمّك لعلّ اللَّه أن يهب لك ولدا تقرّ به عينك وأعيننا. فقال قيس: / لست متزوّجا غيرها أبدا. فقال له أبوه: فإن في مالي سعة فتسرّ بالإماء. قال: ولا أسوءها بشيء أبدا واللَّه. قال أبوه: فإني أقسم عليك إلَّا طلَّقتها. فأبى وقال: الموت واللَّه عليّ أسهل من ذلك، ولكني أخيّرك خصلة من ثلاث خصال. قال: وما هي؟ قال: تتزوّج أنت فلعلّ اللَّه أن يرزقك ولدا غيري. قال: فما فيّ فضلة لذلك.
  قال: فدعني أرتحل عنك بأهلي واصنع ما كنت صانعا لو متّ في علَّتي هذه. قال: ولا هذه. قال: فأدع لبنى عندك وأرتحل عنك فلعليّ أسلوها فإني ما أحبّ بعد أن تكون نفسي طيّبة أنها في خيالي. قال: لا أرضى أو تطلَّقها، وحلف لا يكنّه سقف بيت أبدا حتى يطلَّق لبنى، فكان يخرج فيقف في حرّ الشمس، ويجيء قيس فيقف إلى جانبه فيظلة بردائه ويصلى هو بحرّ الشمس / حتى يفيء الفيء فينصرف عنه، ويدخل إلى لبنى فيعانقها وتعانقه ويبكي وتبكي معه وتقول له: يا قيس، لا تطع أباك فتهلك وتهلكني. فيقول: ما كنت لأطيع أحدا فيك أبدا. فيقال: إنه مكث كذلك سنة. وقال خالد بن كلثوم: ذكر ابن عائشة أنه أقام على ذلك أربعين يوما ثم طلَّقها. وهذا ليس بصحيح.
  طلاقه لبنى ثم ندمه على فراقها، وشعره في ذلك:
  أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدّثني أحمد بن زهير قال حدّثني يحيى بن معين قال حدّثنا عبد الرزّاق قال أخبرنا ابن جريج قال أخبرني عمر بن أبي سفيان عن ليث بن عمرو:
  أنه سمع قيس بن ذريج يقول لزيد بن سليمان: هجرني أبواي في لبنى عشر سنين أستأذن عليهما فيردّاني حتى طلَّقتها. قال ابن جريح: وأخبرت أن عبد اللَّه بن صفوان الطويل لقي ذريحا أبا قيس فقال له: ما حملك على أن فرّقت بينهما؟ أمّا علمت أن عمر بن الخطاب قال: ما أبالي أفرقت بينهما أو مشيت إليهما بالسيف. وروى هذا الحديث إبراهيم بن يسار الزّماديّ عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال قال الحسين بن عليّ ® لذريح بن سنّة أبي قيس: أحلّ لك أن فرّقت بين قيس ولبنى؟! أما إني سمعت عمر بن الخطاب يقول: ما أبالي أفرّقت بين الرجل وامرأته أو مشيت إليهما بالسيف. قالوا: فلما بانت لبنى بطلاقه إيّاها وفرغ من الكلام، لم يلبث حتى استطير عقله وذهب به وحلقه مثل الجنون. وتذكَّر لبنى وحالها معه فأسف وجعل يبكي وينشج أحرّ نشيج.
  وبلغها الخبر فأرسلت إلى أبيها ليحتملها، وقيل: بل أقامت حتى انقضت عدّتها وقيس يدخل عليها. فأقبل أبوها بهودج على ناقة وبإبل تحمل أثاثها. فلما رأى ذلك قيس أقبل على جاريتها فقال: ويحك! ما دهاني فيكم؟ فقالت:
(١) اختلف في معنى الكلالة فقيل: إن الكلالة الرجل الذي لا ولد له ولا والد؛ أو من عدا الأب والابن من الورثة؛ وقيل من عدا الأب والابن والأخ؛ وقيل ما لم يكن من النسب لحا، أي لاصقا؛ وقيل الإخوة لأم.