أخبار مروان بن أبي حفصة ونسبه
  يفي بأضعاف ما بذله المنصور لمن جاءه بي، فخذه ولا تسفك دمي. قال: هاته فأخرجته إليه؛ فنظر إليه ساعة وقال:
  صدقت في قيمته، ولست قابله حتى أسألك عن شيء، فإن صدقتني أطلقتك. فقلت: قل. قال: إن الناس قد وصفوك بالجود، فأخبرني هل وهبت قطَّ مالك كلَّه؟ قلت لا. قال: فنصفه؟ قلت لا. قال: فثلثه؟ قلت لا.
  حتى بلغ العشر فاستحييت فقلت: أظنّ أنّي قد فعلت هذا. فقال: ما أراك فعلته! أنا واللَّه راجل، ورزقي من أبي جعفر عشرون درهما، وهذا الجوهر قيمته آلاف دنانير، وقد وهبته لك، ووهبتك لنفسك ولجودك المأثور عنك بين الناس، ولتعلم أن في الدنيا أجود منك، فلا تعجبك نفسك ولتحقر بعد هذا كلّ شيء تفعله، ولا تتوقّف عن مكرمة. ثم رمى بالعقد في حجري وخلَّى خطام البعير وانصرف. فقلت: يا هذا قد واللَّه فضحتني، ولسفك دمي أهون عليّ ممّا فعلت، فخذ ما دفعته إليك فإنّي غنيّ عنه. فضحك ثم قال: أردت أن تكذّبني في مقامي هذا، واللَّه لا آخذه ولا آخذ بمعروف ثمنا أبدا، ومضى. فو اللَّه لقد طلبته بعد أن أمنت وبذلت لمن جاءني به ما شاء فما عرفت له خبرا، وكأن الأرض ابتلعته.
  سبب رضا المنصور عن معن بن زائدة:
  قال: وكان سبب رضا المنصور عن معن أنه لم يزل مستترا حتى كان يوم الهاشميّة(١)، فلما وثب القوم على المنصور وكادوا يقتلونه، وثب معن وهو متلثّم فانتضى سيفه وقاتل فأبلى بلاء حسنا، وذبّ القوم عنه حتى نجا وهم يحاربونه بعد، / ثم جاء والمنصور راكب على بغلة ولجامها بيد الرّبيع؛ فقال له: تنحّ فإنّي أحقّ باللَّجام منك في هذا الوقت وأعظم فيه غناء. فقال له المنصور: صدق فادفعه إليه؛ فأخذه ولم يزل يقاتل حتى انكشفت تلك الحال. فقال له المنصور: من أنت للَّه أبوك؟ قال: أنا طلبتك يا أمير المؤمنين معن بن زائدة.
  قال: قد أمّنك اللَّه على نفسك ومالك، ومثلك يصطنع. ثم أخذه معه وخلع عليه وحباه وزيّنه. ثم دعا به يوما وقال له: إنّي قد أمّلتك لأمر، فكيف تكون فيه؟ قال: كما يحبّ أمير المؤمنين - قال: قد ولَّيتك اليمن، فابسط السيف فيهم حتى ينقض حلف ربيعة واليمن - قال: أبلغ من ذلك ما يحبّ أمير المؤمنين. فولَّاه اليمن وتوجّه إليها فبسط السيف فيهم حتى أسرف.
  عاتب المنصور معنا على أكرامه له فأجابه إنما أكرمه لمدحه هو:
  قال مروان: وقدم معن بعقب ذلك فدخل على المنصور فقال له بعد كلام طويل: قد بلغ أمير المؤمنين عنك شيء لولا مكانك عنده ورأيه فيك لغضب عليك. قل: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ فو اللَّه ما تعرّضت لك منك، قال: إعطاؤك مروان بن أبي حفصة ألف دينار لقوله / فيك:
  معن بن زائدة الذي زيدت به ... شرفا إلى شرف بنو شيبان
  إن عدّ أيام الفعال فإنّما ... يوماه يوم ندى ويوم طعان
  فقال: واللَّه يا أمير المؤمنين ما أعطيته ما بلغك لهذا الشعر، وإنما أعطيته لقوله:
  ما زلت يوم الهاشميّة معلما ... بالسيف دون خليفة الرحمن
(١) الهاشمية: مدينة بناها السفاح بالكوفة. وذلك أنه لما ولي الخلافة نزل بقصر ابن هبيرة واستتم بناءه وجعله مدينة وسماها الهاشمية.
فلما توفي دفن بها. واستخلف المنصور فنزلها واستتم بناء كان بقي فيها وزاد فيها ما أراد. وكانت فيها وقعة بين أبي جعفر المنصور والراوندية، وهم قوم يقولون بتناسخ الأرواح ويزعمون أن روح آدم حلت في أحد رجالات المنصور، وأن ربهم الذي يطعمهم ويسقيهم هو أبو جعفر المنصور وأن الهيثم بن معاوية جبريل. (راجع «معجم البلدان» لياقوت و «تاريخ الطبري» ق ٣ ص ١٢٩، ١٣١).