كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

أخبار أبي النجم ونسبه

صفحة 348 - الجزء 10

  غضب عليه هشام ثم سمر معه ليلة فرضي عنه:

  ورد أبو النّجم على هشام / بن عبد الملك في الشعراء. فقال لهم هشام: صفوا لي إبلا فقطَّروها⁣(⁣١) وأوردوها وأصدروها حتى كأنّي أنظر إليها. فأنشدوه وأنشده أبو النّجم:

  الحمد للَّه الوهوب المجزل

  حتى بلغ إلى ذكر الشمس فقال «وهي على الأفق كعين ...» وأراد أن يقول «الأحول» ثم ذكر حولة هشام فلم يتمّ البيت وأرتج عليه. فقال هشام: أجز البيت. فقال «كعين الأحول» وأتمّ القصيدة. فأمر هشام فوجيء⁣(⁣٢) عنقه وأخرج من الرّصافة، وقال لصاحب شرطته: يا ربيع إيّاك وأن أرى هذا!، فكلَّم وجوه الناس صاحب الشّرطة أن يقرّه ففعل، فكان يصيب من فضول أطعمة الناس ويأوي إلى المساجد. وقال الزّبير في خبره قال أبو النّجم: ولم يكن أحد بالرّصافة يضيف إلَّا سليم بن كيسان الكلبيّ وعمرو بن بسطام التّغلبيّ، فكنت آتي سليما فأتغدّى عنده، وآتي عمرا فأتعشّى عنده، وآتي المسجد فأبيت فيه. قال: فاهتمّ هشام ليلة وأمسى لقس النّفس / وأراد محدّثا يحدّثه، فقال لخادم له: ابغني محدّثا أعرابيّا أهوج شاعرا يروي الشعر. فخرج الخادم إلى المسجد فإذا هو بأبي النّجم، فضربه برجله وقال له: قم أجب أمير المؤمنين. قال: إنّي رجل أعرابيّ غريب.

  قال: إيّاك أبغي، فهل تروي الشعر؟ قال: نعم وأقوله. فأقبل به حتى أدخله القصر وأغلق الباب، قال: فأيقن بالشرّ ثم مضى به فأدخله على هشام في بيت صغير، بينه وبين نسائه ستر رقيق والشّمع بين يديه تزهر⁣(⁣٣). فلما دخل قال له هشام: أبو النّجم؟! قال: نعم يا أمير المؤمنين طريدك. قال: اجلس. فسأله وقال له: أين كنت تأوي ومن كان ينزلك؟ فأخبره الخبر. قال: وكيف اجتمعا لك؟ قال: كنت أتغدّى عند هذا وأتعشّى عند هذا.

  قال: وأين كنت تبيت؟ قال: في المسجد حيث وجدني رسولك. قال: ومالك من الولد والمال؟ قال: أمّا المال فلا مال لي، وأمّا الولد فلي ثلاث بنات وبنيّ يقال له شيبان. فقال: هل زوّجت⁣(⁣٤) من بناتك أحدا؟ قال: نعم زوّجت اثنتين، وبقيت واحدة تجمز⁣(⁣٥) في أبياتنا كأنّها نعامة. قال: وما وصّيت به الأولى؟ - وكانت تسمّى «برّة» بالراء - فقال:

  أوصيت من برّة قلبا حرّا ... بالكلب خيرا والحماة شرّا

  لا تسأمي ضربا لها وجرّا ... حتى ترى حلو الحياة مرّا

  وإن كستك ذهبا ودرّا ... والحيّ عمّيهم بشرّ طرّا

  فضحك هشام وقال: فما قلت للأخرى؟ قال قلت:

  سبّي الحماة وابهتي⁣(⁣٦) عليها ... وإن دنت فازدلفي إليها


(١) قطر الإبل: قرب بعضها من بعض على نسق.

(٢) في ب، س: «بوجء عنقه وإخراجه». يقال وجأه باليد وبالسكين إذا ضربه.

(٣) زهر السراج: تلألأ.

(٤) في ح، ب، س: «أخرجت».

(٥) جمز: عدا وأسرع.

(٦) بهته: قذفه بالباطل. وهي هنا على تضمين ابهتي معنى افترى عليها فتتعدى بعلى.