كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

أخبار أبي دلامة ونسبه

صفحة 418 - الجزء 10

  فصدّق بافدتك النفس⁣(⁣١) رؤيا ... رأتها في المنام كذاك عيني

  فأمر له بذلك وقال له: لا تعد أن تتحلَّم⁣(⁣٢) عليّ ثانية، فأجعل حلمك أضغاثا ولا أحقّقه.

  حبسه المنصور لسكره فبعث له من الحبس شعرا فعفا عنه:

  ثم خرج من عنده ومضى فشرب في بعض الحانات فسكر وانصرف وهو يميل. فلقيه العسس فأخذوه، وقيل له:

  من أنت وما دينك؟ فقال:

  ديني على دين بنى العبّاس ... ما ختم الطين على القرطاس

  إنّي اصطبحت أربعا بالكاس ... فقد أدار شربها برأسي ... فهل بما قلت لكم من باس

  فأخذوه ومضوا، وخرقوا ثيابه وساجه وأتي به أبو جعفر - وكان يؤتى بكلّ من أخذه العسس - فحبسه مع الدّجاج في بيت. فلمّا أفاق جعل ينادي غلامه مرّة وجاريته أخرى فلا يجيبه أحد، وهو في ذلك يسمع صوت الدّجاج وزقاء الدّيوك. فلمّا أكثر قال له السّجّان: ما شأنك؟ قال: ويلك من أنت وأين أنا؟ قال: في الحبس، وأنا فلان السّجّان. قال: ومن حبسني؟ قال: أمير المؤمنين. قال: / ومن خرق طيلساني؟ قال: الحرس. فطلب منه أن يأتيه بدواة وقرطاس ففعل، فكتب إلى أبي جعفر:

  أمير المؤمنين فدتك نفسي ... علام حبستني وخرقت ساجي

  أمن صفراء صافية المزاج ... كأنّ شعاعها لهب السّراج

  وقد طبخت بنار اللَّه حتّى ... لقد صارت من النّطف⁣(⁣٣) النّضاج

  تهشّ لها القلوب وتشتهيها ... إذا برزت⁣(⁣٤) ترقرق في الزّجاج

  أقاد إلى السّجون بغير جرم ... كأنّي بعض عمّال الخراج

  ولو معهم حبست لكان سهلا ... ولكنّي حبست مع الدّجاج

  وقد كانت تخبّرني ذنوبي ... بأنّي من عقابك غير ناجي

  على أني وإن لاقيت شرّا ... لخيرك بعد ذاك الشّرّ راجي

  فدعا به وقال: أين حبست يا أبا دلامة؟ قال: مع الدّجاج. قال: فما كنت تصنع؟ قال: أقوقي معهنّ حتى أصبحت. فضحك وخلَّى سبيله وأمر له بجائزة. فلمّا خرج قال له الرّبيع: إنه شرب الخمر يا أمير المؤمنين. أما سمعت قوله «وقد طبخت بنار اللَّه» (يعني الشمس). فأمر بردّه ثم قال: يا خبيث شربت الخمر؟ قال لا. قال:

  أفلم تقل «طبخت بنار اللَّه» تعني الشمس. قال: لا واللَّه / ما عنيت إلَّا نار اللَّه الموقدة التي تطَّلع على فؤاد الرّبيع. فضحك وقال: خذها يا ربيع ولا تعاود التعرّض.


(١) في ب، س: «الناس».

(٢) تحلم فلان: قال حلمت بكذا وهو كاذب.

(٣) النطفة: الماء الصافي قل أو كثر.

(٤) في أ، م: «برقت». وترقرق: تلألأ أي تجيء وتذهب.