أخبار عبد الله بن المعتز
  وأمثال لهذا كثيرة. وإنما على الإنسان أن يحفظ من الشيء أحسنه، ويلغي(١) ما لم يستحسنه، فليس مأخوذا به. ولكنّ أقواما أرادوا أن يرفعوا أنفسهم الوضيعة، ويشيدوا بذكرهم الخامل، ويعلوا أقدارهم الساقطة بالطعن على أهل الفضل والقدح فيهم، فلا يزدادون بذلك إلَّا ضعة، ولا يزداد الآخر إلَّا ارتفاعا. ألا ترى إلى ابن المعتزّ قد قتل أسوأ قتلة، ودرج فلم يبق له خلف يقرّظه ولا عقب يرفع منه، وما يزداد بأدبه وشعره وفضله وحسن أخباره وتصرّفه في كلّ فنّ من العلوم إلَّا رفعة / وعلوّا. ولا نظر إلى أضداده كلَّما ازدادوا في طعنه وتقريظ أنفسهم وأسلافهم الذين كانوا مثلهم في ثلبه والطعن عليه، زادوها سقوطا وضعة، وكلَّما وصفوا أشعارهم وقرّظوا آدابهم، زادوا بها ثقلا ومقتا. فإذا وقع عليهم المحصّل الموافق، عدلوا عن ثلبه في الآداب، إلى التشنيع عليه بأمر الدين وهجاء آل أبي طالب، وهم أوّل من فعل ذلك وشنّع به على آل أبي طالب عند المكتفي حتى نهاهم عنه، فعدلوا عن عيب أنفسهم بذلك إلى عيبه، وارتكبوا أكثر منه. وأنا أذكر ذلك بعقب أخبار عبد اللَّه، مصرّحا به على شرح إن شاء اللَّه تعالى.
  علمه بصناعة الموسيقى:
  وكان عبد اللَّه حسن العلم بصناعة الموسيقي، والكلام على النغم وعللها. وله في ذلك وفي غيره من الآداب كتب مشهورة، ومراسلات جرت بينه وبين عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن طاهر وبين بني حمدون، وغيرهم، تدلّ على فضله وغزارة علمه وأدبه.
  كتاب عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن طاهر له وقد بعث إليه برسالة إلى ابن حمدون:
  ولقد قرأت بخطَّ عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن طاهر رقعة إليه بخطَّه، وقد بعث إلى برسالة إلى ابن حمدون في أنه يجوّز ولا ينكر أن يغيّر الإنسان بعض نغم الغناء القديم، ويعدل بها إلى ما يحسن في حلقه ومذهبه. وهي رسالة طويلة، وشاوره فيها. فكتب إليه عبيد اللَّه: «قرأت - أيّدك اللَّه - الرسالة الفاضلة البارعة الموفّقة. فأنا واللَّه أقرؤها إلى آخرها، ثم أعود إلى أوّلها مبتهجا، وأتأمّل وأدعو مبتهلا، وعين اللَّه التي لا تنام عليك وعلى نعمه عندك. فإنها - علم اللَّه - النعمة المعدومة المثل. ولقد تمثّلت وأنا أكرّر نظري فيها قول القائل في سيّدنا وابن سيّدنا عبد اللَّه بن العبّاس:
  كفى وشفى ما في النفوس ولم يدع ... لذي إربة في القول جدّا ولا هزلا
  ولا واللَّه ما رأيت جدّا في هزل، ولا هزلا في جدّ يشبه هذا الكلام في بلاغته وفصاحته وبيانه وإنارة برهانه وجزالة ألفاظه. ولقد خيّل إليّ أنّ لسان جدّك / العبّاس # ينقسم على أجزاء، فلك - أعزّك اللَّه - نصفها، والنصف الآخر مقسوم بين أبي جعفر المنصور والمأمون رحمة اللَّه عليهما. ولو أنّ هذه الرسالة جبهت الإبراهيمين إبراهيم بن المهديّ وإبراهيم الموصليّ وابنه إسحاق وهم مجتمعون لبهت منهم الناظر، وأخرس الناطق، ولأقرّوا لك بالفضل في السّبق، وظهور حجّة الصّدق، ثم كان قولك لهم فرقا بين الحقّ والباطل، والخطأ والصواب. وو اللَّه ما تأخذ في فنّ من الفنون، إلَّا برّزت فيه تبريز الجواد الرّائع، المغبّر في وجه كلّ حصان تابع. عضد اللَّه الشرف ببقائك، وأحيا الأدب / بحياتك، وجمّل الدنيا وأهلها بطول عمرك.
  هذا كلام العقلاء وذوي الفضل في مثله، لا كلام الثقلاء وذوي الجهل. والإطالة في هذا المعنى مستغنى عنها.
(١) كذا في الأصول. ويحتمل أن يكون: «يلقى» بالقاف.