ذكر الأقيشر وأخباره
  فقال: لا أريدها جملة، ولكن مر القهرمان أن / يعطيني في كلّ يوم ثلاثة دراهم حتى تنفد. فكان يأخذها منه، فيجعل درهما لطعامه، ودرهما لشرابه، ودرهما لدابّة تحمله إلى بيوت الخمّارين. فلمّا نفدت الدراهم أتاه الثانية فسأله فأعطاه وفعل مثل ذلك، وأتاه الثالثة فأعطاه وفعل مثل ذلك، وأتاه الرابعة فسأله. فقال له قيس: لا أبا لك! كأنّك قد جعلت هذا خراجا علينا. فانصرف وهو يقول:
  ألم تر قيس الأكمه ابن محمد ... يقول ولا تلقاه للخير يفعل
  رأيتك أعمى العين والقلب ممسكا ... وما خير أعمى العين والقلب يبخل
  فلو صمّ تمّت لعنة اللَّه كلَّها ... عليه وما فيه من الشرّ أفضل
  فقال قيس: لو نجا أحد من الأقيشر لنجوت منه.
  كان سكران فحكموه في الصحابة فقال شعرا:
  أخبرني أبو الحسن الأسديّ عن العنزيّ عن محمد بن معاوية قال:
  اختصم قوم بالكوفة في أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، فقالوا: نجعل بيننا أوّل من يطلع علينا. فطلع الأقيشر عليهم وهو سكران. فقال بعضهم لبعض: انظروا من حكمنا. فقالوا: يا أبا معرض قد حكَّمناك. قال: فيماذا؟
  فأخبروه. فمكث ساعة ثم أنشأ يقول:
  إذا صلَّيت خمسا كلّ يوم ... فإنّ اللَّه يغفر لي فسوقي
  ولم أشرك بربّ الناس شيئا ... فقد أمسكت بالحبل الوثيق
  / وهذا الحقّ ليس به خفاء ... ودعني من بنيّات الطَّريق(١)
  أعطاه ابن رأس البغل مهر ابنة عم له فمدحه فاعترض عليه فأجابه:
  قال محمد بن معاوية: وتزوّج الأقيشر ابنة عمّ له يقال لها الرّباب، على أربعة آلاف درهم، ويقال على عشرة آلاف درهم، فأتى قومه فسألهم فلم يعطوه شيئا؛ فأتى ابن رأس البغل وهو دهقان الصّين وكان مجوسيّا، فسأله فأعطاه الصّداق. فقال الأقيشر:
  كفاني المجوسيّ مهر الرّباب ... فدى للمجوسيّ خاليّ(٢) وعم
  شهدت بأنّك رطب(٣) المشاش ... وأنّ أباك الجواد الخصم
  وأنّك سيّد أهل الجحيم ... إذا ما تردّيت فيمن ظلم
  تجاور قارون في قعرها ... وفرعون والمكتنى بالحكم
  ذهب إلى عكرمة بن ربعيّ فلم يعطه فهجاه:
(١) بنيات الطريق: الطرق الصغار المتشبعة من الطريق الأعظم. ويضرب بها المثل فيقال: «دع عنك بنيات الطريق» أي عليك بمعظم الأمر ودع الروغان. (عن كتاب ما يعول عليه في المضاف والمضاف إليه).
(٢) في «ج»: «خال وعم».
(٣) يقال: فلان لين المشاش إذا كان طيب النحيرة عفيفا عن الطمع. ويقال: فلان طيب المشاش إذا كان كريم النفس.