أخبار أبي جلدة ونسبه
  وناديننا: أين الفرار وكنتم ... تغارون أن تبدو البرى(١) والوشائح
  أأسلمتمونا للعدوّ على القنا ... إذا انتزعت منها القرون النواطح
  فما غار منكم غائر لحليلة ... ولا عزب عزّت عليه المناكح
  قال: فلمّا أنشدهم هذه الأبيات أنفوا وثاروا فشدّوا شدّة تضعضع لهم عسكر الحجّاج، وثبت لهم الحجّاج وصاح بأهل الشأم فتراجعوا وثبتوا، فكانت الدائرة له، فجعل يقتّل الناس بقيّة يومه، حتى صاح به رجل: واللَّه يا حجّاج لئن كنّا قد أسأنا في الذنب لما أحسنت في العفو، ولقد خالفت اللَّه فينا وما أطعته. فقال له: وكيف ويلك؟ قال:
  لأنّ اللَّه تعالى يقول {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ / حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ(٢) فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها} وقد قتلت فأثخنت حتى تجاوزت الحدّ، فأسر ولا تقتل، ثم قال: أو امنن. فقال أولى لك(٣)! ألا كان هذا الكلام منك قبل هذا الوقت! ثم نادى برفع السيف وأمّن الناس جميعا، قال ابن حبيب قال ابن الأعرابيّ: فبلغني أنّ الحجّاج قال يوما لجلسائه ما حرّض على أحد كما حرّض أبو جلدة؛ فإنه نزل على سرحة(٤) في وسط عسكر لابن الأشعث ثم نزع سراويله فوضعه وسلح فوقه والناس ينظرون إليه. فقالوا له: ما لك ويلك أجننت! ما هذا الفعل! قال: كلَّكم قد فعلتم مثل هذا إلَّا أنكم سترتموه وأظهرته. فشتموه وحملوا عليّ، فما أنساهم وهو يقدمهم ويرتجز:
  نحن جلبنا الخيل من زرنجا(٥) ... ما لك يا حجّاج منّا منجى
  لتبعجنّ(٦) بالسيوف بعجا ... أو لتفرّنّ فذاك أحجى(٧)
  فو اللَّه لقد كاد أهل الشأم يومئذ يتضعضعون لولا أنّ اللَّه تعالى أيّد بنصره.
  قال وقال أبو جلدة يومئذ:
  أيا لهفي ويا حزني جميعا ... ويا غمّ(٨) الفؤاد لما لقينا
  تركنا الدّين والدّنيا جميعا ... وخلَّينا(٩) الحلائل والبنينا
  فما كنّا أناسا أهل دين ... فنصبر للبلاء إذا بلينا(١٠)
(١) البري هنا: الخلاخيل، واحدها برة. والوشائح: جمع لوشاح (بضم أوله وكسره). وهو أديم عريض يرصع بالجوهر تشده المرأة بين عاتقها وكشحيها. ويجمع الوشاح أيضا على وشح (بضمتين) وأوشحة.
(٢) أثخنتموهم: غلبتموهم وكثرت فيهم الجراح.
(٣) أولى لك: دعاء عليه بمعنى ويل لك.
(٤) السرحة: الشجرة العظيمة.
(٥) زرنج: قصبة سجستان.
(٦) في «الأصول»: «لنبعجن» بالنون. وقد أثبتناه كما ترى ليكون خطابا للحجاج. والبعج: الشق.
(٧) في «ب، س»: «أو لنفرقن بذاك». وفي «ج»: أو لتفرن بذاك «ويقرأ» أو لنقرن بذاك «بالنون والقاف. وفي» أ، م «:» أو لنغرن بذاك «بالنون والغين. وقد أثبتناه كما ترى لأن له معنى يلائم السياق. وأحجى: أجدر وأخلق.
(٨) في «الطبري»: «ويا حرّ الفؤاد».
(٩) في «الطبري»: «وأسلمنا».
(١٠) في «الطبري»: «في البلاء إذا ابتلينا».