كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

أخبار جعفر بن علبة الحارثي ونسبه

صفحة 38 - الجزء 13

  ونسخت أيضا خبره من كتاب للنضر بن حديد، فخالف هاتين الرّوايتين، وقال فيه: كان جعفر بن علبة يزور نساء من عقيل بن كعب، وكانوا متجاورين هم وبنو الحارث بن كعب، فأخذته عقيل، فكشفوا دبر قميصه، وربطوه إلى جمّته، وضربوه بالسياط، وكتّفوه، ثم أقبلوا به وأدبروا على النّسوة اللاتي كان يتحدّث إليهن على تلك الحال ليغيظوهن، ويفضحوه عندهنّ، فقال لهم: يا قوم، لا تفعلوا فإن هذا الفعل مثلة، وأنا أحلف لكم بما يثلج صدوركم ألا أزور بيوتكم أبدا، ولا ألجها. فلم يقبلوا منه. فقال لهم: فإن لم تفعلوا ذلك فحسبكم ما قد مضى، ومنّوا عليّ بالكفّ عنّى فإني أعدّه نعمة لكم ويدا لا أكفرها أبدا، أو فاقتلوني وأريحوني، فأكون رجلا آذى قوما في دارهم فقتلوه. فلم يفعلوا، وجعلوا يكشفون عورته بين أيدي النساء، ويضربونه، ويغرون به سفهاءهم حتى شفوا أنفسهم منه، ثم خلَّوا سبيله. فلم تمض إلا أيام قليلة حتى عاد جعفر ومعه صاحبان له، فدفع، راحلته حتى أولجها البيوت، ثم مضى. فلما كان في نقرة من الرمل أناخ هو وصاحباه، وكانت عقيل أقفى خلق اللَّه لأثر، فتبعوه حتى انتهوا إليه وإلى صاحبيه، والعقيليّون مغترّون ليس مع أحد منهم عصا ولا سلاح، فوثب عليهم جعفر بن علبة وصاحباه بالسيوف فقتلوا منهم رجلا وجرحوا آخر وافترقوا، فاستعدت عليهم عقيل السريّ / ابن عبد اللَّه الهاشميّ عامل المنصور على مكة، فأحضرهم وحبسهم، فأقاد من الجارح، ودافع عن جعفر بن علبة - وكان يحبّ أن يدرأ عنه الحدّ لخؤولة أبي العباس السفاح في بني الحارث، ولأن أخت جعفر كانت تحت السريّ بن عبد اللَّه، وكانت حظية عنده - إلى أن أقاموا عليه قسامة: أنه قتل صاحبهم. وتوعدوه بالخروج إلى أبي جعفر والتظلم إليه، فحينئذ دعا بجعفر فأقاد منه، وأفلت عليّ بن جعدب من السجن فهرب. قال وهو ابن أخي جعفر بن علبة. فلما أخرج جعفر للقود قال له غلام من قومه: أسقيك شربة من ماء بارد؟ فقال له: اسكت لا أمّ لك، إني إذا لمهياف⁣(⁣١).

  وانقطع شسع نعله⁣(⁣٢) فوقف فأصلحه، فقال له رجل: أما يشغلك عن هذا ما أنت فيه؟ فقال:

  أشدّ قبال نعلي⁣(⁣٣) أن يراني ... عدوّي للحوادث مستكينا

  قال: وكان الَّذي ضرب عنق جعفر بن علبة نحبة بن كليب أخو المجنون، وهو أحد بني عامر بن عقيل، فقال:

  في ذلك:

  شفى النفس ما قال ابن علبة جعفر ... وقولي له اصبر ليس ينفعك الصبر

  هوى رأسه من حيث كان كما هوى ... عقاب تدلَّى طالبا جانب الوكر⁣(⁣٤)

  أبا عارم، فينا عرام⁣(⁣٥) وشدّة ... وبسطة أيمان سواعدها شعر

  هم ضربوا بالسيف هامة جعفر ... ولم ينجه برّ عريض ولا بحر

  وقدناه قود البكر قسرا وعنوة ... إلى القبر حتى ضم أثوابه القبر

  / وقال علبة يرثي ابنه جعفرا:

  لعمرك إني يوم أسلمت جعفرا ... وأصحابه للموت لما أقاتل

  لمتجنب حبّ المنايا وإنما ... يهيج المنايا كلّ حق وباطل


(١) المهياف: الَّذي لا يصبر على العطش.

(٢) شسع النعل: أحد سيورها، وهو الَّذي يدخل بين الإصبعين ويدخل طرفه في الثقب الَّذي في صدر النعل المشدود في الزمام.

والزمام: السير الَّذي يعقد فيه الشسع.

(٣) قبال النعل (بالكسر): شسعها.

(٤) كذا في الأصول ولا يستقيم بغيره الشعر، وفيه إقواء. والَّذي في «كتب اللغة»: أن العقاب مؤنثة. وقيل العقاب يقع على الذكر والأنثى، إلا أن يقولوا: هذا عقاب. ذكره في «اللسان» مادة عقب.

(٥) العرام (بالضم): الشدّة والقوّة والشراسة.