كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

أخبار مجنون بني عامر ونسبه

صفحة 339 - الجزء 2

  وراحوا مقصرين وخلَّفوني ... إلى حزن أعالجه شديد

  قال: ورجع آيسا فعاد إلى حاله الأولى، قال: فلم تزل تلك حاله، إلا أنه غير مستوحش، إنما يكون في جنبات الحيّ منفردا عاريا لا يلبس ثوبا إلا خرّقه، ويهذي ويخطَّط في الأرض ويلعب بالتراب والحجارة، ولا يجيب أحدا سأله عن شيء، فإذا أحبّوا أن يتكلَّم أو يثوب عقله ذكروا له ليلى، فيقول: بأبي هي وأمّي، ثم يرجع إليه عقله فيخاطبونه ويجيبهم، ويأتيه أحداث الحيّ فيحدّثونه عنها وينشدونه الشعر الغزل، فيجيبهم جوابا صحيحا وينشدهم أشعارا قالها، حتى سعى⁣(⁣١) عليهم في السنة الثانية⁣(⁣٢) بعد عمر بن عبد الرحمن نوفل بن مساحق، فنزل مجمعا من تلك / المجامع فرآه يلعب بالتراب وهو عريان، فقال لغلام له: يا غلام، هات ثوبا، فأتاه به، فقال لبعضهم: خذ هذا الثوب فألقه على ذلك الرجل، فقال له: أتعرفه جعلت فداك؟ قال: لا، قال: هذا ابن سيّد الحيّ، لا واللَّه ما يلبس الثياب ولا يزيد على ما تراه يفعله الآن، وإذا طرح عليه شيء خرّقه، ولو كان يلبس ثوبا لكان في مال أبيه ما يكفيه، وحدّثه عن أمره، فدعا به وكلَّمه، فجعل لا يعقل شيئا يكلَّمه به، فقال له قومه: إن أردت أن يجيبك جوابا صحيحا فاذكر له ليلى، فذكرها له وسأله عن حبّه إياها، فأقبل عليه يحدّثه بحديثها ويشكو إليه حبّه إياها وينشده شعره فيها، فقال له نوفل: الحبّ صيّرك إلىّ ما أرى؟ قال نعم، وسينتهي بي إلى ما هو أشدّ مما ترى، فعجب منه وقال له: أتحبّ أن أزوّجكها؟ قال: نعم، وهل إلى ذلك من سبيل؟ قال: انطلق معي حتى أقدم على أهلها بك وأخطبها عليك وأرغَّبهم في المهر لها، قال: أتراك فاعلا؟ قال: نعم، قال: انظر ما تقول! قال: لك عليّ أن أفعل بك ذلك، ودعا له بثياب فألبسه إياها، وراح معه المجنون كأصحّ أصحابه⁣(⁣٣) يحدّثه وينشدّه، فبلغ ذلك رهطها فتلقّوه في السلاح⁣(⁣٤)، وقالوا له: يا بن مساحق لا واللَّه لا يدخل المجنون منازلنا أبدا أو يموت، فقد أهدر لنا السلطان دمه، فأقبل⁣(⁣٥) بهم وأدبر، فأبوا، فلما رأى ذلك قال للمجنون: انصرف، فقال له المجنون: واللَّه ما وفيت لي بالعهد، قال له: انصرافك بعد أن آيسني القوم من إجابتك أصلح من سفك الدماء، فقال المجنون:

  صوت

  أيا ويح من أمسى تخلَّس⁣(⁣٦) عقله ... فأصبح مذهوبا به كلّ مذهب

  خليّا من الخلَّان إلا معذّرا⁣(⁣٧) ... يضاحكني⁣(⁣٨) من كان يهوى تجنّبي


(١) سعى عليهم: ولي جباية صدقاتهم.

(٢) في ت: «الثالثة» ولعل كليهما محرّف عن التالية.

(٣) كذا في أغلب النسخ. وفي ت: «وراح أصحابه معه والمجنون كأصح ما يكون».

(٤) كذا في أغلب النسخ. وفي ب، س: «بالسلاح».

(٥) يريد أنه بذل الجهد في إقناعهم أن يدخلوه معه وقلبهم على جميع الوجوه فلم يجده شيئا. قال في «لسان العرب» مادة قبل: «وقد أقبل الرجل وأدبره وأقبل به وأدبر فما وجد عنده خيرا».

(٦) تخلس: سلب.

(٧) هو المقصر الذي لا عذر له ولكنه يتكلف العذر، ومنه قوله تعالى: {وجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ}.

(٨) كذا في جميع الأصول وهو الموافق لما في «الديوان» طبع بولاق. وسيأتي في جميع الأصول ص ٣٩ من هذا الجزء «إلا مجاملا يساعدني».