كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

أخبار ديك الجن ونسبه

صفحة 292 - الجزء 14

  كان من غطفان رجل يقال له السّليك بن مجمّع، وكان من الفرسان، وكان مطلوبا في سائر القبائل بدماء قوم قتلهم، وكان يهوى / ابنة عمّ له، وكان خطبها مدّة فمنعها أبوها، ثم زوّجه إياها خوفا منه، فدخل بها في دار أبيها ثم نقلها بعد أسبوع إلى عشيرته، فلقيه من بني فزارة ثلاثون فارسا كلَّهم يطلبه بذحل⁣(⁣١)، فحلَّقوا⁣(⁣٢) عليه، وقاتلهم وقتل منهم عددا، وأثخن بالجراح آخرين، وأثخن هو حتى أيقن بالموت. فعاد إليها فقال: ما أسمح بك نفسا لهؤلاء، وإني أحبّ أن أقدّمك قبلي. قالت: افعل، ولو لم تفعله أنت لفعلته أنا بعدك. فضربها بسيفه حتى قتلها، وأنشأ يقول:

  يا طلعة طلع الحمام عليها

  وذكر الأبيات المنسوبة إلى ديك الجن، ثم نزل إليها فتمرّغ في دمها وتخضّب به، ثم تقدّم فقاتل حتى قتل.

  وبلغ قومه خبره، فحملوه وابنة عمّه فدفنوهما. قال: وحفظت فزارة عنه هذه الأبيات فنقلوها. قال: وبلغني أن قومه أدركوه وبه رمق، فسمعوه يردّد هذه الأبيات، فنقلوها وحفظوها عنه، وبقي عندهم يوما ثم مات.

  وقال ديك الجن في هذه المقتولة⁣(⁣٣):

  أشفقت أن يرد الزمان بغدره ... أو أبتلى بعد الوصال بهجره

  / قمر أنا استخرجته من دجنه ... لبليّتي وجلوته من خدره

  فقتلته وله عليّ كرامة ... ملء الحشى وله الفؤاد بأسره

  عهدي به ميتا كأحسن نائم ... والحزن يسفح عبرتي في نحره

  لو كان يدري الميت ماذا بعده ... بالحيّ حلّ بكى له في قبره

  غصص تكاد تفيظ منها نفسه ... وتكاد تخرج قلبه من صدره⁣(⁣٤)

  وقال فيها أيضا:

  أساكن حفرة وقرار لحد ... مفارق خلَّة من بعد عهد⁣(⁣٥)

  أجبني إن قدرت على جوابي ... بحقّ الودّ كيف ظللت بعدي

  وأين حللت بعد حلول قلبي ... وأحشائي وأضلاعي وكبدي؟

  أما واللَّه لو عاينت وجدي ... إذا استعبرت⁣(⁣٦) في الظَّلمات وحدي


(١) الذحل: الثأر، وفي ب، س «بدم».

(٢) في الأصول: «فحنقوا» وأراه محرفا.

(٣) في «وفيات الأعيان»: «ويروى أن المتهم بالجارية غلام كان يهواه فقتله أيضا، وصنع فيه أبياتا وهي ... وأورد الأبيات». وفي «ابن عساكر»: «وكان له غلام كالشمس وجارية كالقمر، وكان يهواهما جميعا، فدخل يوما منزله، فوجد الجارية معانقة للغلام تقبله، فشدّ عليهما فقتلهما، ثم جلس عند رأس الجارية فبكاها طويلا، ثم قال: يا طلعة طلع الحمام ... الأبيات، ثم جلس عند رأس الغلام فبكاه وأنشأ يقول: أشفقت أن يرد الزمان ... الأبيات».

(٤) فاظت نفسه تفيظ: خرجت روحه، مثل فاضت تفيض؛ وكرهها بعضهم، وزعم أبو عبيدة أنها لغة لبعض تميم.

(٥) الخلة: الصديق للذكر والأنثى والواحد والجمع.

(٦) استعبر: جرت عبرته.