ذكر أخبار بصبص جارية ابن نفيس وأخبارها
  علاقة محمد بن عيسى بها:
  أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال: حدّثنا الزّبير قال حدّثني عمي قال: هوي محمد بن عيسى الجعفريّ بصبص جارية ابن نفيس، فهام بها وطال ذلك عليه فقال لصديق له: لقد شغلتني هذه عن صنعتي وكلّ أمري، وقد وجدت مسّ السلوّ فاذهب بنا حتّى أكاشفها بذلك فأستريح. فأتياها فلما غنّت لهما قال لها محمد بن عيسى:
  أتغنين:
  وكنت أحبّكم فسلوت عنكم ... عليكم في دياركم السّلام
  فقالت: لا ولكنّي أغنّي:
  تحمّل أهلها عنها فبانوا ... على آثار من ذهب العفاء(١)
  / فاستحيا وازداد بها كلفا، ولها عشقا، فأطرق ساعة ثم قال: أتغنين:
  وأخضع بالعتبي إذا كنت مذنبا ... وإن أذنبت كنت الذي أتنصّل
  قالت: نعم وأغنّي أحسن منه:
  فإن تقبلوا بالودّ نقبل بمثله ... وننزلكم منّا بأقرب منزل
  قال: فتقاطعا في بيتين، وتواصلا في بيتين. وفي هذه الأبيات الأربعة غناء كان محمد قريض(٢)، وذكاء، وغيرهما ممن شاهدنا من الحذّاق يغنّونه في الابتداءين لحنين من الثقيل الأوّل، وفي الجوابين لحنين من خفيف الثقيل، ولا أعرف صانعهما.
  شغف أبي السائب المخزومي بها
  أخبرني عمي قال: حدّثني هارون بن محمد بن عبد الملك قال: حدّثني أبو أيوب المدينيّ عن مصعب قال:
  حضر أبو السائب المخزومي مجلسا فيه بصبص جارية يحيى بن نفيس، فغنت:
  قلبي حبيس عليك موقوف ... والعين عبرى والدمع مذروف
  والنّفس في حسرة بغصّتها ... قد شفّ أرجاءها التّساويف(٣)
  إن كنت بالحسن قد وصفت لنا ... فإنّني بالهوى لموصوف
  يا حسرتا حسرة أموت بها ... إن لم يكن لي لديك معروف
  قال: فطرب أبو السائب ونعر(٤)، وقال: لا عرف اللَّه قدره إن لم أعرف لك معروفك. ثم أخذ قناعها عن رأسها وجعله على رأسه(٥) وجعل يلطم ويبكي، ويقول لها: بأبي واللَّه أنت، إنّي لأرجو أن تكوني عند اللَّه أفضل من الشّهداء، لما توليناه من السرور، وجعل يصيح، وا غوثاه! يا للَّه لما يلقى العاشقون.
(١) البيت لزهير، في «ديوانه» ٥٨.
(٢) ط، مب، مط: «قريص» بالصاد المهملة.
(٣) شفها: نقصها ونال منها. وأرجاؤها: نواحيها. والتساويف: جمع تسويف، وهو المماطلة.
(٤) نعر: صاح.
(٥) وجعله على رأسه، من ط فقط.