ذكر أحيحة بن الجلاح ونسبه وخبره والسبب الذي من أجله قال الشعر
  ولقد شربت على براجم شربة ... كادت بباقية الحياة تذيع(١)
  ثم مضى حتى إذا كان بحمدان(٢) جاءه نفر من هذيل(٣) فقالوا له: اجعل لنا جعلا وندلَّك على بيت مال فيه كنوز من اللؤلؤ والياقوت والزبرجد والذهب والفضّة(٤)، ليست لأهله منعة ولا شرف. فجعل لهم على ذلك جعلا، فقالوا له: هو البيت الذي تحجّه العرب بمكة. وأرادوا بذلك هلاكه. فتوجّه نحوه فأخذته ظلمة منعته من السّير، فدعا الحبرين فسألهما، فقالا: هذا لما / أجمعت عليه في هذا البيت؛ واللَّه مانعه منك، ولن تصل إليه، فاحذر أن يصيبك ما أصاب من انتهك حرمات اللَّه؛ وإنّما أراد القوم الذين أمروك به هلاكك؛ لأنه لم يرمه أحد قطَّ بشرّ إلا أهلكه اللَّه، فأكرمه وطف به، واحلق رأسك عنده، فترك الذي كان أجمع عليه، وأمر بالهذلَّيين فقطَّع أيديهم وأرجلهم، ثم خرج يسير حتّى أتى مكَّة فنزل بالشّعب من الأبطح، وطاف بالبيت، وحلق رأسه، وكساه الخصف(٥).
  محاولة تبع هدم البيت ثم عدوله عن ذلك:
  قال هشام: وحدّثني ابن لجرير بن يزيد البجلي عن جعفر بن محمد عن أبيه. قال هشام: وحدّثني أبي عن صالح(٦) عن ابن عباس قال:
  لمّا أقبل تبّع يريد هدم البيت وصرف وجوه العرب إلى اليمن، بات صحيحا فأصبح وقد سالت عيناه على خدّيه، فبعث إلى السّحرة والكهّان والمنجّمين، فقال: مالي، فو اللَّه(٧) لقد بتّ ليلتي ما أجد شيئا، وقد صرت إلى ما ترون. فقالوا: حدّث نفسك بخير. ففعل فارتدّ بصيرا، وكسا البيت الخصف.
  هذه رواية جعفر بن محمد عن أبيه. وفي رواية ابن عباس:
  فأتي في المنام فقيل له: اكسه أحسن من هذا. فكساه الوصائل - قال: وهي برود العصب(٨)، سمّيت الوصائل لأنّها كانت يوصل بعضها ببعض - قال: فأقام بمكة ستّة أيام يطعم الطعام، وينحر في كلّ يوم ألف بعير، ثم سار إلى اليمن وهو يقول:
  ونحرنا بالشّعب ستّة آلا ... ف ترى الناس نحوهنّ ورودا(٩)
  وكسونا البيت الذي حرّم اللَّا ... - هـ ملاء معضّدا وبرودا؟(١٠)
(١) كذا على الصواب في ح. وفي ط، مب، مط: «تريع» وفي سائر النسخ: «تزيغ». وإنما يقال أذاع بالشيء: ذهب به. ومنه بيت الكتاب:
ربع قواء أذاع المعصرات به
أي أذهبته وطمست معالمه. وقول الآخر:
توازن أعوام أذاعت بخمسة ... وتجعلني إن لم يق اللَّه سأدبا.
(٢) ط، ح: «بجمدان» بالجيم.
(٣) كذا على الصواب في ط، مب، مط و «التيجان» ٢٩٥. وفي سائر النسخ «من قريش».
(٤) هذه من ط، مب، مط.
(٥) الخصف، بالتحريك: ثياب غلاظ جدا، مشبهة بالخصف المنسوج من الخوص.
(٦) ط، مب، مط: «عن أبي صالح».
(٧) ما عدا ط، مب، مط: «فقال واللَّه».
(٨) العصب: ضرب من برود اليمن. وهذا ما في ط، مب، مط، ح. وفي سائر النسخ: «القصب»، تحريف.
(٩) ورودا، أي واردين. وأصل الورود مصدر ورد.
(١٠) معضد: مخطط على شكل العضد. ما عدا ط، مب، مط، ح: «منضدا» تحريف.