كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

أخبار حسان وجبلة بن الأيهم

صفحة 111 - الجزء 15

  وذكر ابن الكلبي، هذه القصّة نحو هذا وقال: فقال له عمرو: اجعل المفاضلة بيني وبين المنذر شعرا فإنه أسير⁣(⁣١). فقال:

  ونبّئت أن أبا منذر ... يساميك للحدث الأكبر

  قذالك أحسن من وجهه ... وأمّك خير من المنذر

  ويسراك أجود من كفّه ال ... يمين فقولا له أخّر⁣(⁣٢)

  / وقد ذكر المدائني أنّ هذه الأبيات والسجع الذي قبلها لحسان، وهذا أصحّ.

  قدوم جبلة بن الأيهم على عمر ثم تنصره ورحلته إلى هرقل:

  قال أبو عمرو الشيباني: لمّا أسلم جبلة بن الأيهم الغساني وكان من ملوك آل جفنة، كتب إلى عمر ¥ يستأذنه في القدوم عليه، فأذن له عمر فخرج إليه في خمسمائة من أهل بيته، من عكّ وغسان، حتّى إذا كان على مرحلتين كتب إلى عمر يعلمه بقدومه، فسرّ عمر رضوان اللَّه عليه، وأمر الناس باستقباله، وبعث إليه بأنزال⁣(⁣٣)، وأمر جبلة مائتي رجل من أصحابه فلبسوا الدّيباج⁣(⁣٤) والحرير، وركبوا الخيول معقودة أذنابها، وألبسوها قلائد الذهب والفضة، ولبس جبلة تاجه وفيه قرطا مارية - وهي جدّته - ودخل المدينة، فلم يبق بها بكر ولا عانس إلَّا تبرجت وخرجت تنظر إليه وإلى زيّه، فلما انتهى إلى عمر رحّب به وألطفه وأدنى مجلسه، ثم أراد عمر الحجّ فخرج معه جبلة، فبينا هو يطوف بالبيت وكان مشهورا بالموسم، إذ وطئ إزاره رجل من بني فزارة فانحلّ، فرفع جبلة يده فهشم أنف الفزاري، فاستعدى عليه عمر رضوان اللَّه عليه، فبعث إلى جبلة فأتاه فقال: ما هذا؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، إنّه تعمّد حلّ إزاري، ولولا حرمة الكعبة لضربت بين عينيه بالسّيف! فقال له عمر: قد أقررت فإمّا أن رضي الرجل وإمّا أن أقيده منك. قال جبلة: ماذا تصنع بي؟ قال: آمر بهشم أنفك كما فعلت. قال: وكيف ذاك يا أمير المؤمنين، وهو سوقة وأنا ملك؟ قال: إنّ الإسلام جمعك وإياه، فلست تفضله بشيء إلا بالتّقى والعافية! قال جبلة: قد ظننت يا أمير المؤمنين أنّي أكون في الإسلام أعزّ مني في الجاهلية. قال عمر: دع عنك هذا فإنّك إن لم ترض الرجل أقدته منك. قال: إذا أتنصّر. قال: / إن تنصّرت ضربت عنقك، لأنّك قد أسلمت، / فإن ارتددت قتلتك. فلما رأى جبلة الصّدق من عمر قال: أنا ناظر في هذا ليلتي هذه. وقد اجتمع بباب عمر من حيّ هذا وحيّ هذا خلق كثير، حتى كادت تكون بينهم فتنة، فلما أمسوا أذن له عمر في الانصراف، حتّى إذا نام الناس وهدؤا تحمل جبلة بخيله ورواحله إلى الشأم، فأصبحت مكة وهي منهم بلاقع، فلما انتهى إلى الشأم تحمل في خمسمائة رجل من قومه حتّى أتى القسطنطينية، فدخل إلى هرقل، فتنصّر هو وقومه، فسرّ هرقل بذلك جدّا وظنّ أنه فتح من الفتوح عظيم، وأقطعه حيث شاء، وأجرى عليه من النزّل ما شاء، وجعله من محدّثيه وسمّاره. هكذا ذكر أبو عمرو.


(١) أسير: أكثر سيرا بين الناس وشهرة.

(٢) ما عدا ط، ح، أ، ها، مط: «أجر»، تحريف.

(٣) الأنزال: جمع نزل، بضم وبضمتين، وهو ما يهيأ للضيف أن ينزل عليه.

(٤) ما عدا ط، ها، مط: «السلاح».