ذكر هاشم بن سليمان وبعض أخباره
  الدعاء ونصبوا فلمع لهم سراب فأقبل على الدعاء، ثم لمع لهم آخر كذلك فقال الرائد: ماء. فقام وقام الناس فمشينا حتّى نزلنا عليه فشربنا واغتسلنا، فما تعالى النهار حتّى أقبلت الإبل من كلّ وجه وأناخت إلينا، فقام كلّ رجل إلى ظهره فأخذه، فما فقدنا سلكا(١)، فأرويناها العلل بعد النّهل وتروّحنا. وكان أبو هريرة رفيقي، فلما غبنا عن ذلك المكان قال لي: كيف علمك بموضع ذلك الماء؟ فقلت: أنا أهدى الناس(٢) بهذه البلاد. قال: فكَّر معي حتى تقيمني عليه. فكررت به فأنخت على ذلك المكان بعينه، فإذا هو لا غدير به، ولا أثر للماء، فقلت له: واللَّه لولا أنّي لا أرى الغدير لأخبرتك أنّ هذا هو المكان، وما رأيت بهذا المكان ماء قبل ذلك(٣). فنظر أبو هريرة فإذا إداوة مملوءة فقال: يا سهم، هذا واللَّه المكان ولهذا رجعت ورجعت بك. وملأت إداوتي هذه ثم وضعتها على شفير الوادي فقلت: إن كان منّا من المن وكانت آية عرفتها، [وإن كان غياثا عرفته. فإذا منّ من المنّ](٤) وحمدت اللَّه جلّ وعز. ثمّ سرنا حتّى نزلنا هجر فأرسل العلاء إلى الجارود ورجل آخر: أن انضمّا في عبد القيس حتّى تنزلا على الحطم مما يليكما. وخرج هو فيمن معه وفيمن / قدم عليه(٥) حتّى ينزل مما يلي هجر. وتجمّع المسلمون كلَّهم إلى العلاء بن الحضرميّ، ثم خندق المسلمون والمشركون فكانوا يتراوحون القتال ويرجعون إلى خندقهم، فكانوا كذلك شهرا. فبينا الناس ليلة كذلك إذ سمع المسلمون في عسكر المشركين ضوضاء شديدة، فكأنّها ضوضاء هزيمة فقال العلاء: من يأتينا بخبر القوم؟ فقال عبد اللَّه بن حذف: أنا آتيكم بخبر القوم - وكانت أمّه عجليّة - فخرج حتّى إذا دنا من خندقهم أخذوه فقالوا له: من أنت؟ فانتسب لهم وجعل ينادي يا أبجراه! فجاء أبجر بن بجير فعرفه فقال:
  ما شأنك؟ فقال لا أضيعنّ الليلة بين اللَّهازم، علام / أقتل وحولي عساكر من عجل وتيم اللات وعنزة وقيس، أيتلاعب بي الحطم ونزّاع القبائل وأنتم شهود! فتخلَّصه وقال: واللَّه إنّي لأظنك بئس ابن الأخت لأخوالك الليلة.
  قال: دعني من هذا وأطعمني، فقد متّ جوعا. فقرب إليه طعاما فأكل. ثم قال: زوّدني واحملني وجوّزني انطلق إلى طيّتي. ويقول ذلك لرجل قد علب عليه الشراب، ففعل وحمله على بعير وزوّده وجوّزه. وخرج عبد اللَّه حتّى دخل عسكر المسلمين، فأخبرهم أنّ القوم سكارى، فخرج القوم عليهم حتى اقتحموا عسكرهم فوضعوا فيهم السيوف حيث شاؤوا، واقتحموا الخندق هرّابا، فمتردّ، وناج، ودهش، ومقتول، ومأسور. واستولى المسلمون على ما في العسكر، ولم يفلت رجل إلَّا بما عليه. فأمّا أبجر فأفلت، وأمّا الحطم فإنه بعل ودهش وطار فؤاده(٦)، فقام إلى فرسه والمسلمون خلالهم يجوسونهم ليركبه، فلما وضع رجله في الركاب انقطع، فمر به عفيف بن المنذر أحد بني عمرو بن تميم، والحطم يستغيث ويقول: ألا رجل من بني قيس بن ثعلبة يعقلني؟ فرفع صوته فعرفه عفيف فقال: أبو ضبيعة؟ / قال: نعم. قال: أعطني رجلك أعقلك. فأعطاه رجله يعقلها فنفحها فأطنّها من الفخذ(٧) وتركه، فقال: أجهز عليّ. فقال: إنّي لأحبّ أن لا تموت حتى أمضّك. وكان مع عفيف عدّة من ولد أبيه فأصيبوا
(١) السلك: جمع سلكة، وهو الخيط الذي يخاط به الثوب.
(٢) الطبري: «أنا من أهدى الناس».
(٣) الطبري: «ماء ناقعا قبل اليوم».
(٤) التكملة من «تاريخ الطبري».
(٥) في الأصول: «وفيمن قدر عليه». وأثبت ما في «الطبري».
(٦) بعل: دهش وفرق فلم يدر ما يصنع.
(٧) نفحه بالسيف: تناوله به. أطنها: قطعها.