كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

ذكر الخبر في مقتل ابني عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب

صفحة 446 - الجزء 16

  وأسمعتهم. ثم قدمت مكة وأهلها يتحدثون أن الضحاك بن قيس أغار على الحيرة، فاحتمل من أموال أهلها ما شاء، ثم انكفأ راجعا، فأفّ لحياة في دهر جرأ عليك الضحاك. وما الضحاك؟ وهل هو إلا فقع بقرقرة⁣(⁣١)، وقد ظننت وبلغني أن أنصارك قد خذلوك، فاكتب إليّ يا بن أمّ برأيك، فإن كنت الموت تريد، تحملت إليك ببني أبيك وولد أخيك، فعشنا ما عشت، ومتنا معك، فو اللَّه ما أحب أن أبقى بعدك فواقا⁣(⁣٢)، وأقسم باللَّه الأعز الأجل، أن عيشا أعيشه في هذه الدنيا بعدك، لعيش غير هنيء ولا مريء ولا نجيع⁣(⁣٣). والسّلام.

  فأجابه عليّ بن أبي طالب، #: :

  «أما بعد، كلأنا اللَّه وإياك كلاءة من يخشاه بالغيب، إنه حميد مجيد، فقد قدم عليّ عبد الرّحمن بن عبيد الأزديّ بكتابك، تذكر فيه أنك لقيت ابن أبي سرح مقبلا من قديد، في نحو من أربعين شابا من أبناء الطلقاء، وإنّ بنيّ أبي سرح طال ما كاذ اللَّه ورسوله وكتابه، وصدّ عن سبيله، وبغاها عوجا، فدع بني أبي سرح عنك، ودع قريشا وتركاضهم في الضلالة، وتجوالهم في الشقاق، فإن قريشا قد أجمعت على حرب أخيك، إجماعها على حرب رسول اللَّه قبل اليوم، فأصبحوا قد جهلوا حقه، وجحدوا فضله، وبادوه⁣(⁣٤) بالعداوة، ونصبوا له الحرب، وجهدوا عليه كل الجهد، وساقوا إليه جيش الأمرّين. اللهم فاجز عني قريشا الجوازي، فقد قطعت رحمي، وتظاهرت عليّ، والحمد للَّه على كل حال.

  / وأما ما ذكرت من غارة الضحاك بن قيس على الحيرة، فهو أقل وأذل من أن يقرب الحيرة، ولكنه جاء في خيل جريدة، فلزم الظهر، وأخذ على السماوة، فمر بواقصة وشراف وما والى ذلك الصقع، فسرحت إليه جيشا كثيفا من المسلمين، فلما بلغه ذلك جاز هاربا، فاتبعوه فلحقوه ببعض الطريق وقد أمعن في السير، وقد طفلت⁣(⁣٥) الشمس للإياب، فاقتتلوا شيئا كلا ولا⁣(⁣٦)، فولَّى ولم يصبر، وقتل من أصحابه بضعة عشر رجلا، ونجا جريضا⁣(⁣٧) بعد ما أخذ منه بالمخنّق، فلأيا⁣(⁣٨) بلأى مانجا.

  وأما ما سألت عنه أن أكتب إليك فيه برأيي، فإن رأيي قتال المحلَّين⁣(⁣٩) حتى ألقى اللَّه، لا يزيدني كثرة الناس حولي عزّة، ولا تفرّقهم عني وحشة، لأني محق، واللَّه مع الحق وأهله، وما أكره الموت على الحق، وما الحير كله إلا بعد الموت لمن كان محقا.


(١) الفقع: البيضاء الرخوة من الكمأة، وهي أردؤها. القرقرة: أرض مطمئنة لينة. ويقال للذليل: هو أذل من فقع بقرقرة، لأنه لا يمتنع على من اجتناه، أو لأنه يوطأ بالأرجل.

(٢) فواقا، بفتح الفاء: ما بين الحلبتين من الوقت، يريد وقتا قصيرا.

(٣) نجيع: هنيء.

(٤) باداه بالعداوة: كاشفه بها.

(٥) طفلت الشمس للغروب: دنت.

(٦) كلا ولا: أي مدة قليلة.

(٧) جريضا: مشرفا على الهلاك، من جرض بريقه: إذا ابتلعه على هم وحزن بالجهد.

(٨) اللأي: المشقة والشدة والجهد. ولأيا بلأى ما نجا: أي نجا بعد مشقة وجهد.

(٩) المحلون: الخارجون من الميثاق والبيعة، يعني البغاة ومخالفي الإمام. ويقال لكل من خرج من إسلام، أو حارب في الحرم، أو في الأشهر الحرم: محل.