كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

أخبار عزة الميلاء

صفحة 109 - الجزء 17

  ختن زيد بن ثابت الأنصاري بنته، فأولم؛ فاجتمع إليه المهاجرون والأنصار وعامّة أهل المدينة، وحضر حسّان بن ثابت وقد كفّ بصره يومئذ، وثقل سمعه، وكان يقول إذا دعي: أعرس أم عذار⁣(⁣١)؟ فحضر ووضع بين يديه خوان ليس عليه إلَّا عبد الرحمن ابنه، فكان / يسأله: أطعام يد أم يدين؟ فلم يزل يأكل حتى جاؤوا بالشّواء، فقال: طعام يدين؛ فأمسك يده حتى إذا فرغ من الطعام ثنيت وسادة، وأقبلت الميلاء، وهي يومئذ شابّة، فوضع في حجرها مزهر، فضربت به، ثم تغنّت، فكان أوّل ما ابتدأت به شعر حسّان، قال:

  /

  فلا زال قبر بين بصرى وجلَّق ... عليه من الوسميّ جود ووابل

  فطرب حسّان، وجعلت عيناه تنضحان، وهو مصغ لها.

  أخبرني ابن عبد العزيز الجوهريّ، عن ابن شبّة، عن الأصمعيّ، عن أبي الزناد، قال:

  قلت لخارجة بن زيد: أكان يكون هذا الغناء عندكم؟ قال: كان يكون في العرسات⁣(⁣٢) ولم يكن يشهد بما يشهد به اليوم من السّعة.

  وكان في إخواننا بني نبيط مأدبة، فدعينا، وثمّ قينة أو قينتان تنشدان شعر حسّان بن ثابت، قال⁣(⁣٣):

  انظر خليلي بباب جلَّق هل ... تبصر دون البلقاء من أحد؟⁣(⁣٤)؟

  قال: وحسّان يبكي، وابنه يومئ إليهما أن زيدا؛ فإذا زادتا بكى حسّان، فأعجبني ما يعجبه من أن تبكيا أباه، وقد كفّ بصر حسّان بن ثابت يومئذ.

  أخبرنا وكيع، عن حماد بن إسحاق، عن أبيه، عن الواقديّ، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، قال:

  سمعت خارجة بن زيد يقول: دعينا إلى مأدبة في آل نبيط، قال خارجة: فحضرتها، وحسّان بن ثابت قد حضرها، فجلسنا / جميعا على مائدة واحدة، وهو يومئذ قد ذهب بصره، ومعه ابنه عبد الرحمن، فكان إذا أتى طعام سأل ابنه: أطعام يد أم يدين؟ يعني باليد الثّريد وباليدين الشّواء؛ لأنه ينهش نهشا، فإذا قال: طعام يدين أمسك يده. فلما فرغوا من الطعام أتوا بجاريتين: إحداهما رائقة والأخرى عزّة، فجلستا وأخذتا مزهريهما، وضربتا ضربا عجيبا، وغنّتا بقول حسّان:

  انظر خليلي بباب جلَّق هل ... تبصر دون البلقاء من أحد

  فأسمع حسّانا يقول:

  قد أراني بها⁣(⁣٥) سميعا بصيرا

  وعيناه تدمعان، فإذا سكتتا سكت عنه البكاء، وإذا غنّتا بكى، فكنت أرى ابنه عبد الرحمن إذا سكتتا يشير إليهما أن تغنّيا، فيبكي أبوه، فأقول: ما حاجته إلى إبكاء أبيه!.


(١) العرس: طعام الوليمة، والعذار: طعام البناء والختان.

(٢) س، ب: «العرسان». والعرسات: جمع عرس: طعام الوليمة، ويجمع على أعراس أيضا.

(٣) ديوانه ١١٠.

(٤) جلق: اسم لكورة الغوطة، أو هي دمشق نفسها أو قرية من قراها. والبلقاء من أعمال دمشق.

(٥) المختار: «هناك».