كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

نسب أمية بن أبي الصلت

صفحة 195 - الجزء 17

  أبرهة يحرض فقراء الحبشة على أرياط

  فقال لهم عند ذلك رجل من الحبشة يقال له أبرهة من قوّاد أرياط: لو أن رجلا غضب لغضبكم إذا لأسلمتموه حتى يذبح كما تذبح الشاة. قالوا: لا والمسيح، ما كنّا نسلمه أبدا، فواثقوه بالإنجيل ألَّا يسلموه⁣(⁣١) حتى يموتوا عن آخرهم.

  فنادى مناديه فيهم، فاجتمعوا إليه فبلغ ذلك أرياط أنّ أبا أصحم أبرهة جمع لك الجموع، ودعا الناس إلى قتالك. قال: أو قد فعل ذلك أبرهة، وهو ممن لا بيت له في الحبشة! وغضب أرياط غضبا شديدا، وقال: هو أدنى من ذلك نفسا وبيتا، هذا باطل.

  قالوا: فأرسل إليه؛ فإن أتاك فهو باطل، وإن لم يأتك فاعلم أنه كما يقال، فأرسل إليه: أجب الملك أرياط.

  فجثا أبرهة على ركبتيه وخرّ لوجهه، وأخذ عودا من الأرض فجعله في فيه، وقال للرسول: اذهب إلى الملك فأخبره بما رأيت مني، أنا أخلعه؟ أنا أشدّ تعظيما له من ذلك! وأنا آتيه على أربع قوائم بحساب البهيمة.

  فرجع الرسول إلى الملك فأخبره بالخبر، / فقال: ألم أقل لكم؟ قالوا: الملك أعقل وأعلم منّا.

  فلما ولَّى الرسول من عند أبرهة وتوارى عنه صاح أبرهة في الفقراء من الحبشة، فاجتمعوا إليه معهم السلاح، والآلة التي كانوا يعملون بها ويهدمون بها مدن اليمن: المعاول والكرازين⁣(⁣٢) والمساحي، ثم صفّوا صفّا، وصفّوا خلفه آخر بإزائه. فلما أبطأ أبرهة على الملك وهو يرى أنه يأتيه على أربع قوائم كما قال، وأتى الرسول أرياط فأخبره بما صنع أبرهة، ركب في الملوك ومن تبعه / من أتباعهم، فلبسوا السلاح وجاؤا بالفيلة، وكان معه سبعة فيلة، حتى إذا دنا بعضهم من بعض برز أبرهة بين الصّفّين، فنادى بأعلى صوته: يا معشر الحبشة، اللَّه ربّنا، والإنجيل كتابنا، وعيسى نبيّنا، والنجاشيّ ملكنا، علام يقتل بعضنا بعضا في مذهب النصرانية؟ هذا رجل وأنا رجل فخلَّوا بيني وبينه، فإن قتلني عاد الملك إلى ما كان عليه من أثرة الأغنياء وهلاك الفقراء، وإن قتلته سلمتم وعملت فيكم بالإنصاف بينكم ما بقيت.

  فقال الملوك لأرياط: قد أخبرناك أنه صنع ما قد ترى، وقد أبيت⁣(⁣٣) إلَّا حسن الرأي فيه، وقد أنصفك. وكان أرياط قد عرف بالشجاعة والنجدة، وكان جميلا، وكان أبرهة قصيرا دميما قبيحا منكر الجمّة⁣(⁣٤)، فاستحيا أرياط من الملوك أن يجبن، فبرز بين الصفّين، ومشى أحدهما إلى صاحبه، وحمل عليه أرياط فضرب أبرهة ضربة وقع منها حاجباه وعامّة أنفه، ووقع بين رجلي أرياط، فعمد أبرهة إلى عمامته فشدّ بها وجهه، فسكن الدّم والتأم الجرح، وأخذ عودا وجعله في فيه، وقال: أيها الملك، إنما أنا شاة فاصنع ما أردت، فقد أبصرت أمري. ففرح أرياط بما صنع، وكان أبرهة قد سمّ خنجرا، وجعله في بطن فخذه، كأنه خافية نسر.


(١) كذا في أ، ح وفي ب، س: «لا يسلموه».

(٢) الكرزن، بالفتح، وقد يكسر، والكرزبن: فأس كبير.

(٣) كذا في أ، ح، وفي ب، س: «أبنت أحسن الرأي فيه».

(٤) الجمة، بضم الجيم: مجتمع شعر الرأس.