كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

يوم الصفقة

صفحة 204 - الجزء 17

  على الجيش الذي بعثه كسرى إلى اليمن، وكانت العير تحمل نبعا⁣(⁣١)، فكانت تبذرق⁣(⁣٢) من المدائن حتى تدفع إلى النعمان، / ويبذرقها النعمان بخفراء من بني ربيعة ومضر حتى يدفعها إلى هوذة بن عليّ الحنفي، فيبذرقها حتى يخرجها من أرض بني حنيفة، ثم تدفع إلى سعد، / وتجعل لهم جعالة، فتسير فيها، فيدفعونها إلى عمّال باذام باليمن.

  فلما بعث كسرى بهذه العير قال هوذة للأساورة: انظروا الذي تجعلونه لبني تميم فأعطونيه؛ فأنا أكفيكم أمرهم، وأسير فيها معكم، حتى تبلغوا مأمنكم، فخرج هوذة والأساورة والعير معهم من هجر، حتى إذا كانوا بنطاع بلع بني سعد ما صنع هوذة، فساروا إليهم، وأخذوا ما كان معهم، واقتسموه وقتلوا عامّة الأساورة، وسلبوهم، وأسروا هوذة بن عليّ، فاشترى هوذة نفسه بثلاثمائة بعير، فساروا معه إلى هجر، فأخذوا منه فداءه، ففي ذلك يقول شاعر بني سعد:

  ومنّا رئيس القوم ليلة أدلجوا ... بهوذة مقرون اليدين إلى النّحر

  وردنا به نخل اليمامة عانيا ... عليه وثاق القدّ والحلق السّمر

  فعمد هوذة عند ذلك إلى الأساورة الذين أطلقهم بنو سعد، وكانوا قد سلبوا، فكساهم وحملهم، ثم انطلق معهم إلى كسرى، وكان هوذة رجلا جميلا شجاعا لبيبا، فدخل عليه فقصّ أمر بني تميم وما صنعوا، فدعا كسرى بكأس من ذهب فسقاه فيها، وأعطاه إياها وكساه قباء ديباج منسوجا بالذهب واللؤلؤ، وقلنسوة قيمتها ثلاثون ألف درهم، وهو قول الأعشى⁣(⁣٣):

  له أكاليل بالياقوت فصّلها ... صوّاغها لا ترى عيبا ولا طبعا

  وذكر أن كسرى سأل هوذة عن ماله ومعيشته فأخبره أنه في عيش رغد، وأنه يغزو المغازي فيصيب.

  فقال له كسرى في ذلك: كم ولدك؟ قال: عشرة، قال: فأيّهم أحبّ / إليك؟ قال: غائبهم حتى يقدم، وصغيرهم حتى يكبر، ومريضهم حتى يبرأ. قال كسرى: الذي أخرج منك هذا العقل حملك على أن طلبت مني الوسيلة. وقال كسرى لهوذة: رأيت هؤلاء الذين قتلوا أساورتي، وأخذوا مالي، أبينك وبينهم صلح؟.

  قال هوذة: أيها الملك بيني وبينهم حساء⁣(⁣٤) الموت، وهم قتلوا أبي. فقال كسرى: قد أدركت ثأرك، فكيف لي بهم؟ قال هوذة: إنّ أرضهم لا تطيقها أساورتك، وهم يمتنعون بها، ولكن احبس عنهم الميرة، فإذا فعلت ذلك بهم سنة أرسلت معي جندا من أساورتك، فأقيم لهم السوق؛ فإنهم يأتونها، فتصيبهم عند ذلك خيلك.

  ففعل كسرى ذلك، وحبس عنهم الأسواق في سنة مجدبة، ثم سرّح إلى هوذة فأتاه، فقال: ائت هؤلاء فاشفني منهم، واشتف. وسرّح معهم جوار بودار⁣(⁣٥) ورجلا من أردشير خرّه. فقال لهوذة: سر مع رسولي هذا، فسار في ألف أسوار حتى نزلوا المشّقر من أرض البحرين، هو حصن هجر.


(١) أ، ج: «نبفا». والنبع: شجر القسي.

(٢) تبذرق: تخفر.

(٣) ديوانه ١٠٧.

(٤) حساء الموت: شربه وتجرعه.

(٥) كذا ضبط في أ، م وفي ج: «جوار يودار».