نسب أشجع وأخباره
  فحدّثني شيخ من مشايخ المطَّوّعة وملازمي الثّغور يقال له عليّ بن عبد اللَّه، قال: حدّثني جماعة أنّ الرّشيد لما حصر أهل هرقلة وغمهم وألحّ بالمجانيق والسهام والعرّادات(١) فتح الباب(٢) فاستشرف المسلمون لذلك(٢) فإذا برجل من أهلها كأكمل(٣) الرّجال قد خرج في أكمل السلاح، فنادى: قد طالت مواقعتكم إيانا فليبرز إليّ منكم رجلان، ثم لم يزل يزيد حتى بلغ عشرين رجلا، فلم يجبه أحد، فدخل وأغلق باب الحصن وكان الرّشيد نائما فلم يعلم بخبره، إلا بعد انصرافه، فغضب ولام خدمه وغلمانه على تركهم إنباهه، وتأسف لفوته، فقيل له: إنّ امتناع الناس منه سيغويه ويطغيه، وأحر به أن يخرج في غد فيطلب مثل / ما طلب، فطالت على الرّشيد ليلته وأصبح كالمنتظر له، ثم إذا هو بالباب قد فتح وخرج طالبا للمبارزة، وذلك في يوم شديد الحرّ، وجعل يدعو بأنه يثبت لعشرين منهم، فقال الرّشيد: من له؟ فابتدره جلَّة القوّاد كهرثمة، ويزيد بن مزيد، وعبد اللَّه بن مالك، وخزيمة بن حازم، وأخيه عبد اللَّه، وداود بن يزيد، وأخيه، فعزم على إخراج بعضهم، فضجّت المطَّوّعة حتى سمع ضجيجهم، فأذن لعشرين منهم، فاستأذنوه في المشورة فأذن لهم، فقال قائلهم: يا أمير المؤمنين، قوّادك مشهورون بالبأس والنّجدة وعلوّ الصوت ومداوسة(٤) الحروب، ومتى خرج واحد منهم فقتل هذا العلج(٥) لم يكبر ذلك، وإن قتله العلج كانت وضيعة(٦) على العسكر عجيبة وثلمة لا تسدّ، ونحن عامّة لم يرتفع لأحد منا صوت إلا كما يصلح للعامّة، فإن رأى أمير المؤمنين أن يخلَّينا نختار رجلا فنخرجه إليه، فإن ظفر علم أهل الحصن / أنّ أمير المؤمنين قد ظفر بأعزّهم على يد رجل من العامّة، ومن أفناء الناس ليس ممن يوهن قتله ولا يؤثّر، وإن قتل الرّجل فإنما استشهد رجل ولم يؤثّر ذهابه في العسكر ولم يثلمه، وخرج إليه رجل بعده مثله حتى يقضي اللَّه ما شاء(٧)، قال الرّشيد: قد استصوبت رأيكم هذا. فاختاروا رجلا منهم يعرف بابن الجزريّ، وكان معروفا في الثّغر بالبأس والنجدة، فقال الرشيد: أتخرج؟ قال: نعم، وأستعين اللَّه، فقال: أعطوه فرسا ورمحا وسيفا وترسا، فقال: يا أمير المؤمنين! أنا بفرسي أوثق، ورمحي بيدي أشدّ(٨)، ولكني قد قبلت السيف والتّرس، فلبس سلاحه واستدناه الرّشيد فودّعه، واستتبعه(٩) الدّعاء، وخرج معه عشرون رجلا من المطَّوّعة، فلما انقضّ في الوادي قال لهم العلج وهو يعدّهم واحدا واحدا: إنما كان الشّرط عشرين وقد زدتم رجلا، ولكن لا بأس، فنادوه: ليس يخرج إليك منا إلا رجل واحد، فلما فصل / منهم ابن الجزريّ تأمّله الرّوميّ وقد أشرف أكثر الرّوم من الحصن يتأمّلون صاحبهم والقرن حتى ظنّوا أنه لم يبق في الحصن أحد إلا أشرف، فقال الرّوميّ: أتصدقني، عما أستخبرك(١٠)؟ قال: نعم، فقال:
  أنت باللَّه ابن الجزري؟ قال: اللهم نعم، فكفّر له(١١)، ثم أخذ في شأنهما فاطَّعنا حتى طال الأمر بينهما، وكاد
(١) العرادات: جمع عرادة، وهي آلة من آلات الحرب؛ منجنيق صغير.
(٢ - ٢) زيادة من ف.
(٣) ف: «كأجمل الرجال».
(٤) مداوسة الحروب: المران عليها وتذليلها. وفي ف: «مدارسة».
(٥) العلج: الرجل الضخم من كفار العجم.
(٦) الوضيعة: الحطيطة. وفي ف: «كانت وصمة على العسكر قبيحة».
(٧) ب: «يمضي إليه ما شاء».
(٨) ف: «أسد».
(٩) ف: «وأتبعه».
(١٠) في مد: «فيما أستخبرك». وفي ب: «عم استنخبوك».
(١١) كفر له: انحنى ووضع يده على صدره وطأطأ رأسه كالركوع تعظيما له.