كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

نسب أشجع وأخباره

صفحة 419 - الجزء 18

  الفرسان أن يقوما⁣(⁣١) وليس يخدش واحد منهما صاحبه، ثم تحاجزا⁣(⁣٢) بشيء، فزجّ كلّ واحد منهما برمحه، وأصلت سيفه، فتجالدا مليّا، واشتدّ الحرّ عليهما، وتبلَّد الفرسان، وجعل ابن الجزريّ يضرب الرّوميّ الضربة التي يرى أنه قد بلغ فيها فيتقيها الروميّ، وكان ترسه حديدا؛ فيسمع لذلك صوت منكر، ويضربه الرّوميّ ضرب معذّر؛ لأن ترس ابن الجزريّ كان درقة، فكان العلج يخاف أن يعضّ بالسّيف فيعطب، فلما يئس من وصول كل واحد منهما إلى صاحبه انهزم ابن الجزريّ؛ فدخلت المسلمين كآبة لم لم يكتئبوا مثلها قطَّ، وعطعط⁣(⁣٣) المشركون اختيالا وتطاولا، وإنما كانت هزيمته حيلة منه؛ فأتبعه العلج، وتمكَّن منه ابن الجزريّ فرماه بوهق⁣(⁣٤) فوقع في عنقه وما أخطأه، وركض فاستلَّه عن فرسه، ثم عطف عليه فما وصل إلى الأرض حيّا حتى فارقه رأسه، فكبّر المسلمون أعلى تكبير، وانخذل المشركون وبادروا الباب يغلقونه، واتصل الخبر بالرّشيد فصاحب القوّاد: اجعلوا النار في المجانيق وارموها فليس عند القوم دفع، ففعلوا وجعلوا الكتّان والنّفط على الحجارة وأضرموا فيها النار ورموا بها السور، فكانت النار تلصق به وتأخذ الحجارة، وقد تصدّع فتهافتت، فلما أحاطت بها النيران فتحوا الباب مستأمنين ومستقبلين، فقال الشاعر المكَّيّ الذي كان ينزل جدّة:

  صوت

  هوت هرقلة لمّا أن رأت عجبا ... حوائما⁣(⁣٥) ترتمي بالنّفط والنّار

  كأنّ نيراننا في جنب قلعتهم ... مصبّغات على أرسان قصّار

  في هذين البيتين لابن جامع لحن من الثقيل الأوّل بالبنصر.

  قال محمد بن يزيد: وهذا كلام ضعيف لين، ولكنّ قدره عظيم في ذلك الموضع والوقت، وغنّى فيه المغنّون بعد ذلك. / وأعظم الرّشيد الجائزة للجدّيّ الشاعر، وصبّت الأموال على ابن الجزريّ وقوّد، فلم يقبل التّقويد إلا بغير رزق ولا عوض، وسأل أن يعفى وينزل بمكانه من الثّغر، فلم يزل به طول عمره.

  ابن جامع يغني الرشيد بهرقلة

  أخبرني محمد بن خلف وكيع، قال: حدثنا عبد اللَّه بن أبي سعد، قال: حدّثنا أحمد بن عليّ بن أبي نعيم المروزيّ قال:

  خرج الرّشيد غازيا بلاد الرّوم فنزل بهرقلة، فدخل عليه ابن جامع فغنّاه:

  هوت هرقلة لمّا أن رأت عجبا ... حوائما ترتمي بالنّفط والنّار

  فنظر الرشيد إلى ماشية قد جيء بها، فظنّ أن الطاغية قد أتاه، فخرج يركض على فرس له وفي يده الرّمح، وتبعه الناس، فلما تبيّن له أنها ماشية رجعوا، فغنّاه ابن جامع:


(١) ف: «وكاد الفرسان يقومان».

(٢) ف: «ثم تحاورا بشيء».

(٣) العطعطة: تتابع الأصوات واختلاطها.

(٤) الوهق: الحبل في طرفيه أنشوطة يطرح في عنق الدابة والإنسان.

(٥) في «التجريد»: «جواثما».