كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

ذكر مخارق وأخباره

صفحة 493 - الجزء 18

  فغنّيته إياه، فطرب طربا شديدا وشرب عليه ثلاثة أرطال ولاء، وأمر لي بألف دينار وخلع عليّ جبّة وشي كانت عليه مذهبة، ودرّاعة مثلها وعمامة مثلها تكاد تعشي البصر من كثرة الذّهب، فلمّا لبست ذلك ورآه عليّ ندم، وكان كثيرا ما يفعل ذلك، فقال لبعض الخدم: قل للطبّاخ يأتينا بمصليّة⁣(⁣١) معقودة الساعة، فأتى بها، فقال لي: كل معي، وكنت أعرف النّاس بمذهبه وبكراهته لذلك، فامتنعت. فحلف أن آكل معه، فحين أدخلت يدي في الغضارة⁣(⁣٢) رفع يده، ثم قال: أفّ نغّصتها عليّ واللَّه وقذّرتها عندي بإدخالك يدك فيها، ثمّ رفس القصعة رفسة فإذا هي في حجري، وودكها⁣(⁣٣) يسيل على الخلعة حتى نفذ إلى جلدي، فقمت مبادرا فنزعتها، وبعثت بها إلى منزلي وغيّرت ثيابي وعدت وأنا مغموم منها وهو يضحك، فلمّا رجعت إلى منزلي جمعت كلّ صانع حاذق فجهدوا في إخراج ذلك الأثر منها فلم يخرج، ولم أنتفع بها حتى أحرقتها فأخذت ذهبها، وضرب الدّهر بعد ذلك ضرباته.

  يؤاكل المأمون ويغنيه فيعبس في وجهه ثم يدعوه ثانية ويكافئه

  ثم دعاني المأمون يوما، فدخلت إليه وهو جالس، وبين يديه مائدة عليها رغيفان ودجاجتان، فقال لي: تعال فكل، فامتنعت، فقال لي: تعال ويلك فساعدني. فجلست فأكلت معه حتى استوفى، ووضع النبيذ ودعا علَّوية فجلس، وقال لي: يا مخارق، أتغنّي:

  أقول التماس العذر لمّا ظلمتني ... وحمّلتني ذنبا وما كنت مذنبا

  فقلت: نعم يا سيّدي، قال: غنّه، فغنّيته فعبس في وجهي ثم قال: قبّحك اللَّه أهكذا يغنّى هذا! ثم أقبل على علَّوية فقال: أتغنّيه؟ قال: نعم يا سيّدي، قال: غنّه، فغنّاه، فو اللَّه ما قاربني فيه، فقال: أحسنت واللَّه، وشرب رطلا، وأمر له بعشرة آلاف درهم، واستعاده ثلاثا، وشرب عليه ثلاثة أرطال يعطيه مع كلّ عشرة آلاف درهم، ثم خذف بإصبعه⁣(⁣٤) وقال: برق يمان، وكان إذا أراد قطع الشرب فعل ذلك، وقمنا فعلمت من أين أتيت.

  فلمّا كان بعد أيام دعاني فدخلت إليه وهو جالس في ذلك الموضع بعينه يأكل هناك، فقال لي: تعال ويلك فساعدني، فقلت: الطلاق لي لازم إن فعلت، فضحك ثم قال: ويلك، أتراني بخيلا على الطَّعام! لا واللَّه، ولكنني أردت أن أؤدّبك، إنّ السادة لا ينبغي لعبيدها أن تؤاكلها، أفهمت؟ فقلت: نعم، قال: فتعال الآن فكل على الأمان فقلت: أكون إذا أوّل من أضاع تأديبك إياه واستحقّ العقوبة من قريب، فضحك حتى استغرب⁣(⁣٥)، ثمّ أمر لي بألف دينار، ومضيت إلى حجرتي المرسومة لي⁣(⁣٦) للخدمة، وأتيت هناك بطعام فأكلت، ووضع النّبيذ ودعاني وبعلَّوية، فلمّا جلسنا قال له: يا عليّ، أتغنّي:

  /

  ألم تقولي: نعم، قالت: أرى وهما ... منيّ وهل يؤخذ الإنسان بالوهم!⁣(⁣٧)


(١) صلى اللحم يصليه صليا: شواه فهو مصليّ، ويقال: أتى بشاة مصليّة.

(٢) الغضارة كسحابة: القصعة الكبيرة.

(٣) الودك: ما يتحلب من اللحم والشحم من دسم.

(٤) خذف بإصبعه: حركه كأنه يرمي شيئا.

(٥) استغرب: بالغ في الضحك.

(٦) ف، ما: «المرسومة بي».

(٧) الوهم: السهو أو الخطأ.