ذكر أبي محجن ونسبه
  إذا قمت عنّاني الحديد وغلَّقت ... مصاريع من دوني تصمّ المناديا
  وقد كنت ذا مال كثير وإخوة ... فقد تركوني واحدا لا أخاليا
  وقد شفّ جسمي أنّني كلّ شارق ... أعالج كبلا مصمتا قد برانيا(١)
  فللَّه درّي يوم أترك موثقا ... وتذهل عنّي أسرتي ورجاليا
  حبيسا عن الحرب العوان وقد بدت ... وإعمال غيري يوم ذاك العواليا
  وللَّه عهد لا أخيس بعهده ... لئن فرجت ألَّا أزور الحوانيا(٢)
  فقالت له سلمى: إني قد استخرت اللَّه ورضيت بعهدك، فأطلقته وقالت: أمّا الفرس فلا أعيرها، ورجعت إلى بيتها، فاقتادها أبو محجن وأخرجها من باب القصر الَّذي يلي الخندق، فركبها ثم دبّ عليها، حتى إذا كان بحيال الميمنة، وأضاء النّهار، وتصافّ النّاس، كبّر، ثم حمل على ميسرة القوم فلعب برمحه وسلاحه / بين الصّفّين، ثم رجع من خلف المسلمين إلى القلب فبدر(٣) أمام الناس، فحمل على القوم فلعب بين الصّفّين برمحه وسلاحه، وكان يقصف الناس ليلتئذ قصفا منكرا؛ فعجب الناس منه وهم لا يعرفونه ولم يروه بالأمس، فقال بعض القوم: هذا من أوائل أصحاب هشام بن عتبة أو هشام بنفسه. وقال قوم: إن كان الخضر يشهد الحروب فهو صاحب البلقاء. وقال آخرون: لولا أنّ الملائكة لا تباشر القتال ظاهرا لقلنا هذا ملاك بيننا؛ وجعل سعد يقول - وهو مشرف ينظر إليه -: الطَّعن طعن أبي محجن، والضّبر ضبر البلقاء(٤). ولولا محبس أبي محجن لقلت: هذا أبو محجن وهذه البلقاء، فلم يزل يقاتل حتى انتصف الليل، فتحاجز أهل العسكرين وأقبل أبو محجن حتى دخل القصر، ووضع عن نفسه ودابّته، وأعاد رجليه في القيد، وأنشأ يقول:
  لقد علمت ثقيف غير فخر ... بأنّا نحن أكرمهم سيوفا
  وأكثرهم دروعا سابغات ... وأصبرهم إذا كرهوا الوقوفا
  وأنّا رفدهم في كلّ يوم ... فإن جحدوا فسل بهم عريفا(٥)
  وليلة قادس لم يشعروا بي ... ولم أكره بمخرجي الزّحوفا
  فإن أحبس فقد عرفوا بلائي ... وإن أطلق أجرّعهم حتوفا(٦)
  فقالت له سلمى: يا أبا محجن؛ في أيّ شيء حبسك هذا الرّجل؟ فقال: أما واللَّه ما حبسني بحرام أكلته ولا
(١) الشارق: الشمس حين تشرق، والكبل: القيد.
(٢) لا أخيس بالعهد: لا أنقضه. والحواني: الخمارات.
(٣) في تاريخ الطبري ٣ - ٥٤٨ ط. المعارف: «فندر أمام الناس»، أي تقدم.
(٤) الضبر: جمع القوائم والوثب.
(٥) في تاريخ الطبري ٣ - ٥٤٩ ط. المعارف:
وأنا وفدهم في كل يوم ... فإن عميوا فسل بهم عريفا
(٦) في تاريخ الطبري ٣ - ٥٤٩ ط. المعارف:
فإن أحبس فذلكم بلائي ... وإن أترك أذيقهم الحتوفا