مقتل مصعب بن الزبير
  من يشاء، ألا إنه لم يذلّ واللَّه من كان الحق معه وإن كان مفردا ضعيفا، ولم يعزّ من كان الباطل معه، وإن كان في العدّة والعدد والكثرة، ثم قال: إنه قد أتانا خبر من العراق بلد الغدر والشقاق فساءنا وسرّنا، أتانا أن مصعبا قتل رحمة اللَّه عليه ومغفرته، فأما الَّذي أحزننا من ذلك فإن لفراق الحميم لذعة يجدها حميمه عند المصيبة، ثم يرعوي من بعد ذو الرأي والدين إلى جميل الصبر. وأما الَّذي سرّنا منه فإنا قد علمنا أن قتله شهادة له وأن اللَّه ø جاعل لنا وله ذلك خيرة إن شاء اللَّه تعالى. إن أهل العراق أسلموه وباعوه بأقل ثمن كانوا يأخذونه منه وأخسره، أسلموه إسلام / النّعم المخطَّم(١) فقتل، ولئن قتل لقد قتل أبوه وعمّه وأخوه وكانوا الخيار الصالحين، إنا واللَّه ما نموت حتف أنوفنا، ما نموت إلا قتلا، قعصا بين قصد(٢) الرّماح وتحت ظلال السّيوف وليس كما يموت بنو مروان، واللَّه ما قتل رجل منهم في جاهلية ولا إسلام قط، وإنما الدنيا عارية من الملك القهار، الَّذي لا يزول سلطانه، ولا يبيد ملكه، فإن تقبل الدنيا عليّ لا آخذها أخذ الأشر البطر، وإن تدبر عني لا أبك عليها بكاء الخرف المهتر. ثم نزل.
  رجل من بني أسد يرثي مصعبا
  وقال رجل من بني أسد بن عبد العزّى يرثي مصعبا:
  لعمرك إنّ الموت منا لمولع ... بكلّ فتى رحب الذّراع أريب
  فإن يك أمسى مصعب نال حتفه ... لقد كان صلب العود غير هيوب(٣)
  جميل المحيّا يوهن القرن غربه ... وإن عضّه دهر فغير رهوب
  أتاه حمام الموت وسط جنوده ... فطاروا شلالا(٤) واستقى بذنوب
  ولو صبروا نالوا حبا(٥) وكرامة ... ولكنّهم ولَّوا بغير قلوب
  كان مصعب أشجع الناس
  قال: وقال عبد الملك يوما لجلسائه: من أشجع الناس؟ فأكثروا في هذا المعنى، فقال: أشجع الناس مصعب بن الزبير، جمع بين عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين وأمة(٦) الحميد بنت عبد اللَّه بن عاصم، وولي العراقين، ثم زحف إلى الحرب، فبذلت له الأمان / والحباء والولاية والعفو عمّا خلص في يده، فأبى قبول ذلك، واطَّرح كل / ما كان مشغوفا(٧) به من ماله وأهله وراء ظهره، وأقبل بسيفه قرما(٨) يقاتل وما بقي معه إلا سبعة نفر حتى قتل كريما.
(١) المخطم: الَّذي جعل الخطام على أنفه ليعتاد به.
(٢) قصد الرماح جمع قصدة؛ وهي القطعة منه بعد كسرها.
(٣) ف:
جميل المحيا يوهن القرن عزمه ... وإن عزه دهر فغير هيوب
وإن يك أمسى مصعب نال حتفه ... لقد كان صلب العود غير رهوب
(٤) فطاروا شلالا: فروا متفرقين.
(٥) الحبا: جمع حبوة، وهي العطية.
(٦) ف: «وأمة الحميد ...».
(٧) ف: «ما كان مشغولا به من ماله».
(٨) ف، مد: «وأقبل بسيفه قدما» ... وقرم: شديد الرغبة، من قرم اللحم وإليه: اشتدت شهوته إليه فهو قرم.